عبدالحافظ معجب
كاتب وباحث سياسي
في مسار الحروب والصراعات المسلحة، يخوض الباحثون في علم الاستراتيجيا العسكرية والأمن القومي في جدلية عميقة، تتعلق بشرعية وسرية الاستعانة بالخبراء والقوى الخارجية، هذا الجدل ليس جديدًا، فالتاريخ العسكري للدول حافل بنماذج من التعاون السري أو العلني، الذي غالبًا ما يجري تسويقه وفقًا لمعطيات المصلحة السياسية وموازين القوى الإعلامية، غير أن التطبيق العملي لهذه الممارسة يظهر ازدواجية معيارية واضحة، لاسيما عند مقارنة فعل الدول الكبرى وحلفائها الإقليميين بفعل حركات المقاومة والدول التي تناضل دفاعًا عن وجودها.
تقدم معركة اليمن – منذ تدخل ما يسمى بالتحالف العربي في مارس 2015- نموذجًا حيًا لهذه الازدواجية؛ إذ يجري اليوم -عن طريق أجهزة إعلام موجهة- تحويل أي حديث عن دعم محتمل من حلفاء طبيعيين لليمن، مثل حزب الله، إلى “نقمة” و”منقصة”، في تجاهل تام لحقيقة أن هذا العدوان نفسه قام ويقوم على جيش هائل من المرتزقة الأجانب والشركات الأمنية الخاصة والاستشارات العسكرية الغربية والصهيونية.
من منظور القانون الدولي الإنساني ومبدأ الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، يحق لأي دولة تتعرض لعدوان خارجي أن تطلب العون العسكري أو الاستشاري من أي دولة أو كيان آخر، هذا حق غير قابل للتصرف، وهو أساس تشكيل التحالفات الدفاعية عبر التاريخ، ففي الحرب العالمية الثانية، استعانت دول الحلفاء بكل ما لديها من موارد وحلفاء، وفي الحرب الباردة كان إرسال “المستشارين العسكريين” من قبل القوتين العظميين إلى ساحات النزاعات حول العالم أمرًا عاديًا، وغالبًا ما كان سريًا، حتى في العصر الحديث نرى تقارير أممية وحقوقية، كتلك الصادرة عن مجموعة العمل المعنية باستخدام المرتزقة التابعة للأمم المتحدة، تفضح استخدام دول التحالف، وعلى رأسها السعودية والإمارات، لآلاف المرتزقة من السودان وتشاد وكولومبيا وغيرها، إضافة إلى التعاقد مع شركات أمنية مشبوهة، مثل “بلاك ووتر” و”داين كروب” ذات السجل الدموي، وصولًا إلى الاستعانة بخبراء وتقنيات من الكيان الصهيوني. هذا هو الجانب المكشوف من الحرب، الذي يُدار بثروات طائلة مستمدة من أموال الشعوب، لكنه فشل في كسر إرادة شعب يمني أعزل نسبيًا.
في المقابل عندما يُذكر أن دولة كاليمن، التي تواجه هذا التحالف الضخم قد استعانت بخبرات فنية أو عسكرية من حلفاء تربطهم بها رؤية واستراتيجية مشتركة، يجري تقديم الأمر وكأنه انتهاك للسيادة أو ضعف في القدرات، وهذا قلب للحقيقة. إن الاستعانة بحلفاء في معركة مصيرية ليست عيبًا، بل هي حكمة واستناد إلى حق مشروع، العيب الحقيقي يكمن في أن تقوم دول تمتلك ترسانات هائلة وتنفق المليارات على التسلح، ثم تفشل في تحقيق أهدافها، فتلجأ إلى شراء الضمائر والمرتزقة وتحويل الحرب إلى تجارة دموية.
الفارق الجوهري هنا هو أن تعاون قوى المقاومة، سواء بين اليمن وحزب الله أم غيرهما، ليس تعاونًا تجاريًا قائمًا على المال، بل هو تعاون نضالي قائم على مبدأ “وحدة الساحات” و”الإسناد المتبادل” في مواجهة عدو مشترك. إنه تعبير عملي عن استراتيجية دفاعية مشتركة، تبلورت في سنوات من التنسيق، وظهرت نتائجها جلية في دعم جبهات المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، وهو ما عبّر عنه بوضوح في عملية “وحدة الساحات” التي أعلنتها سرايا القدس، وصولًا إلى “معركة طوفان الأقصى” والدعم اليمني واللبناني والعراقي المستمر لها.
لقد مارست اليمن عبر تاريخها الحديث هذا النهج القائم على التضامن الإسلامي والعربي، فأقامت معسكرات للمقاومة الفلسطينية على أراضيها، وأرسلت متطوعين للقتال دفاعًا عن فلسطين ولبنان، ولا تزال رفات شهدائها محتجزة في مقابر الأرقام الصهيونية أو مدفونة في ترب الجنوب اللبناني، في قلعة الشقيف وغيرها. هذا الامتداد النضالي لم يكن طارئًا، بل هو جزء من هوية أمة تؤمن بأن نصرة المظلوم فريضة، وهنا يأتي البُعد الحضاري والديني الذي يجعل من هذا التعاون أمرًا أعمق من البراغماتية السياسية العابرة، ففي القرآن الكريم تأكيد على مبدأ التعاون والدفاع المشترك: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} (الأنفال: 72)، وفي سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والعهد المدني، تشكلت أول دولة على أساس المواثيق والتحالفات الدفاعية بين المسلمين وبين غيرهم من الطوائف، وفي ملحمة كربلاء، نجد النموذج الأسمى للتضحية ونصرة الحق؛ إذ قف أنصار الإمام الحسين عليه السلام من مختلف الخلفيات دفاعًا عن مبدأ، لا طمعًا في مال أو جاه.
لذلك، فإن الحديث عن وجود خبراء من حزب الله أو غيرهم في اليمن، إذا ما ثبت، فهو ليس فضيحة ولا نقطة ضعف، على العكس هو مصدر قوة وثقة، ويدل على عمق العلاقات الاستراتيجية بين محور المقاومة وعلى وجود تنسيق عالِ المستوى وغرف عمليات مشتركة تعمل على قلب المعادلات لصالح المستضعفين. الأكثر أهمية أنه يظهر أن معركة اليمن ليست معركة محلية معزولة، بل هي حلقة في صراع وجودي أوسع ضد مشروع الهيمنة الغربية. ما يجب أن تؤمن به شعوبنا، هو أن قوة اليمن تكمن في عدالة قضيته وإيمانه وحلفائه المبدئيين، بينما تكمن هشاشة تحالف العدوان في بنيته القائمة على الإكراه المالي والتبعية والمرتزقة.
إن محاولة تسويق دعم حزب الله على أنه “تدخل” هي محاولة يائسة لتفكيك نسيج التضامن بين الشعوب، وزرع الفرقة حيث يجب أن تكون الوحدة، والخطر الحقيقي هو على الوعي الجمعي، الذي قد يبدأ بوصف أواصر الأخوة والتعاون المشترك، القائم على المبادئ والقيم بأنه ضعف أو انتهاك. الحفاظ على هذه الروح، والاعتزاز بها، والتعبير عنها بفخر كما فعل الأمين العام لحزب الله، هو الذي يصنع المنعة ويحقق الانتصار. اليمن يقاتل اليوم بسلاح الحق والإيمان والحلفاء الأوفياء، بينما يقاتل عدوه بسلاح المال والمرتزقة والتدخل الأجنبي المكشوف، وهذه مفارقة تاريخية ستسجلها الأجيال القادمة بكل وضوح.

