طالب الحسني
كاتب وباحث سياسي
مقدمة:
يستخدم مصطلح التطبيع بشكل أوسع لتوصيف “العلاقات العربية الإسرائيلية ” على أنه لا يتطابق مع المفهوم السياسي للتغبير عن استقامة العلاقات بين دولتين أو كيانين عند الحالة الطبيعية أو التقليدية، فضلًا عن أن العدو الإسرائيلي ينظر إلى مفهوم التطبيع وتطبيقاته بطريقته الخاصة؛ بما يجعل ” السلام ” أو بناء العلاقات تلبي أهدافًا استراتيجية تكتيكية بعيدة المدى في كثير من الحالات.
تدرس هذه الورقة (مدلول التطبيع وتطبيقاته في الاستراتيجية الإسرائيلية)، وتشمل المدة الزمنية الممتدة من 1949 – 2025.
تستند الورقة البحثية على أحداث ووقائع تظهر سلوك كيان العدو الإسرائيلي وتطبيقاته للاتفاقيات الموقعة تحت إشراف الأمم المتحدة أو “الوسيط الأمريكي” منذ اتفاقيات رودس 1949، كما تستند على تصريحات وكتابات ووثائق تاريخية.
إننا نبحث عن مآلات ومصائر في “الصراع العربي الإسرائيلي” ارتبطت بالتناولات الدبلوماسية والكتابات التاريخية والأرشيف العالمي بمفهوم “السلام مع إسرائيل”، في حين أننا -بصفتنا سابقين وشهودًا- أنه لا يتعلق بالسلام وإنما بنهايات قرارات قيادات عربية مختلف عليها في حلقات المواجهة، والأحداث والتطورات نفسها مسجلة في الأرشيف الصهيوني إنجازات انتزعت بقوة السلاح وقوة الحليف الدبلوماسي المهيمن.
تتعلق الإشكالية التي تقدمها الورقة بالمدلول السياسي والتطبيق “للتطبيع مع إسرائيل ” من منظور الاستراتيجية الإسرائيلية.
مدخل:
لا تعد الدراسة جديدة بالنظر إلى عشرات البحوث ومئات الدراسات والكتب التي تناولت التطبيع من زوايا متعددة خلال نحو 7 عقود، لكن الدراسة ستبدو مقاربة مختلفة وحديثة بفعل تزامنها مع تشكّل مفاهيم وتطبقات جديدة “للتطبيع مع إسرائيل “، على غرار “اتفاقيات إبراهام ” 15 سبتمبر/أيلول 2020، التي ابتدأت من توقيع الإمارات والبحرين، مرورًا بتوقيع المغرب في العام نفسه، ومؤخرًا التحاق كازاخستان _ فبراير- 2025 _ وفي الطريق على الأرجح المملكة العربية السعودية ودول عربية وإسلامية أخرى.
تُقسم الدراسة إلى 4 مباحث:
المبحث الأول: الهدن واتفاقيات “السلام” في النصف الأخير من القرن العشرين:
- – اتفاقيات رودس 1949.
- – من كامب ديفيد إلى أوسلو (1978ـ 1993).
المبحث الثاني: (اتفاقية إبراهام 2020):
- – التكامل الاقتصادي.
- – الاندماج الثقافي.
- – التحالفات.
المبحث الثالث: التطبيع بعد 7 أكتوبر:
- – تأثير طوفان الأقصى في التطبيع:
- – ما بعد الإبادة في غزة.
- – وهم “الانتصار الإسرائيلي.
المبحث الرابع: مركزية الاستباحة وهامشية التطبيع:
- – السلوك الإسرائيلي مع لبنان وسوريا.
- – السعودية وتعديل شروط التطبيع.
المبحث الأول: الهدن واتفاقيات “السلام” في النصف الأخير من القرن العشرين:
- – اتفاقيات رودس 1949.
- – من كامب ديفيد إلى أوسلو (1997ـ 1993).
عندما أعلنت الأمم المتحدة قرار181 الذي يقضي بتقسيم فلسطين بوصفها واحدة من الجنايات التاريخية الأولى للمنظمة الدولية، في 29 نوفمبر 1947 أبدت مجموعات الضغط الصهيونية إلحاحًا كبيرًا على التصويت لمشروع القرار، والبدء في تنفيذه على جغرافية فلسطين التاريخية، وقد منح القرار ما أطلق عليها “الدولة اليهودية ” 56% و44% للدولة الفلسطينية.
كان الإصرار الإسرائيلي على انتزاع القرار خطوة أولى تؤسس “للاعتراف الدولي بشرعية دولة يهودية ” على أكثر من نصف جغرافية فلسطين، في حين أن المضمر كان التوسع والحدود المفتوحة وغير المعرفة، وهو ما حدث لاحقًا، ولا يزال جزءًا من الحرب.
لقد تشكل السلوك الأول للكيفية التي سيتعامل بها الكيان الصهيوني مع المجتمع الدولي، مثلما تشكل الضغط الأمريكي والبريطاني على الأمم المتحدة، وتحويلها إلى مركز ثقل قابل للتوظيف عند الضرورة.
كتب آرثر سولز -الذي كان يرأس نيويورك تايمز حينها- في وصف السلوك الإسرائيلي: «إنني أمقت أساليب الإكراه التي يتبعها الصهاينة الذين لم يتورعوا عن استخدام وسائل اقتصادية لإسكات الأشخاص الذين يخالفونهم الرأي…، وإنني أعارض محاولة الاغتيال الخلقي التي يطبقونها على الذين لا يوافقونهم الرأي».
بعد مدة وجيزة اغتيل الوسيط الأممي السويسري الكونت برنادوت عندما قدم مقترحات يرفض خلالها التوسع الإسرائيلي على الأراضي التي حددتها الأمم المتحدة لما سمي ” بالدولة اليهودية “، بعد أن بدأت العصابات الصهيونية باجتياح القرى والمدن الفلسطينية في أحداث النكبة الفلسطينية العربية عام 1948، مع ذلك لم يتغير الدعم الأمريكي والبريطاني، واستمرت خطط الاستعمار البريطاني في الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي من المقرر أن تكون ضمن الدولة الفلسطينية المفترضة.
ومثلما برز الصلف الصهيوني في التعامل مع “التحركات الدبلوماسية ” التي تقوم بها الأمم المتحدة، ستكشف اتفاقيات رودس التي جاءت نتيجة للانتكاسة العربية 1948- 1949 سلوكا احتياليا وعدائيا واستغلاليا بلا حدود يمارسه الكيان.
إن اتفاقيات رودس التي تُعد أول معاهدة بين دول عربية وكيان العدو الإسرائيلي، التي عرفت أنها “اتفاقيات هدن لوقف حرب ” العصابات الصهيونية (لم تعترف الدول العربية بالدولة اليهودية)، الدول العربية: مصر ولبنان وسوريا والأردن، وقد كشفت للعدو الإسرائيلي خيوط أولية لرسم “استراتيجية الحرب ووقف الحرب وليس السلام مع الدول العربية المحيطة بفلسطين.
لم يستخدم مصطلح التطبيع طوال العقدين اللذين سبقا كامب ديفيد، وباستطاعة أي باحث أن يستنبط ميلاد الأفكار الإسرائيلية الأولية لما سيصبح فيما بعد ” السلام، التطبيع، التواصل ” أو العلاقات، وإن كل هذه المفاهيم حتى الآن لا تعمل بالمعنى الحقيقي.
صحيح أن الاتفاقيات التي وقعت مع كل دولة عربية منفردة لم تكن اتفاقيات سلام دائم أو اعتراف وتطبيع، لكن الكيان تعامل معها بوصفها إنجازًا مزدوجًا عسكريًا ودبلوماسيًا في ثلاثة مسارات:
- – عزل إسرائيلي للدور العربي عن تحركاته وتوسعه في الأراضي الفلسطينية، ومن ثَمَّ لم تكن تعني سوى وقف القتال مع الجبهات العربية حينها.
- – تقسيم الموقف العربي الموحد عن طريق توقيع اتفاقيات الهدنة مع كل دولة بشكل منفرد وتاريخ مختلف، وحتى شروط متفاوتة.
- – تسلحت العصابات التي بدأت بالتطهير العرقي في فلسطين على غرار الهاجانا بكل ما تستطيع من الأسلحة والمعدات العسكرية.
لقد أدرك الكيان في الأشهر الأولى التي تلت هدن رودس أن المخاوف من المحيط العربي والإسلامي ليست كبيرة، وأن التوسع خارج الأراضي الفلسطينية لن يكون معجزة.
إن بنود اتفاقيات رودس بين الدول العربية و”إسرائيل ” تفضي إلى حالة تفضيل عسكرية وسياسية تتجاوز التخلي عن دعم الفلسطينيين، من بين ذلك الآتي:
- – إيجاد مناطق عازلة ومنزوعة السلاح (4 مناطق على الحدود السورية والمصرية مع الأراضي الفلسطينية و3 مناطق مع الأردن).
- – التمهيد لاتفاقيات “سلام دائم “.
وقد مثلت نتائج اتفاقيات رودس مساحة غربية للتحرك في الساحة العربية لأول مرة بملف يحمل عنوان ” سلام عربي إسرائيلي “، ولم يكن ذلك مجرد أفكار لعرض نظري، بل تحولت فيما بعد لنقاشات وتجارب دخلت أروقة بعض الأنظمة العربية، كان الأخطر منها على الإطلاق -التي لا تزال منهجية تيارات عربية وحتى إسلامية- تلك المتعلقة بالتشكيك في جدوى المواجهة، إن هذا التأسيس الفكري والسياسي كان المرغوب أمريكيا، من هنا ولد مفهوم محور، عُرف بـ ” محور الدول المعتدلة ” أو ” الاعتدال “.
وفي وقت تكوَّن لدى كيان العدو الإسرائيلي مدلول أولي لما عرف ” بالتطبيع ” لاحقا، ويشير إلى إمكانية عزل الموقف العربي عن فلسطين باستخدام ” القوة ثم التفاوض “.
خرج مشروع الرئيس التونسي بورقيبة عام 1965 أول نظام عربي رسمي يدعو إلى مفاوضات مع العدو الإسرائيلي واعتراف متبادل، لم ينجح المشروع لكنه التُقط إسرائيليا.
نكسة 67 ومؤتمر الخرطوم والقرار الأممي 242:
لقد أحدثت هزيمة حزيران 1967 العربية أمام كيان العدو الإسرائيلي – وتوسعه إلى أراضي دول عربية في مصر ولبنان وسوريا والأردن- واقعا جديدا، لكنه لم يكن بالضرورة سيقود إلى كامب ديفيد (الأرض مقابل السلام).
إن خسارة دول عربية بعض أراضيها وتعرضها للهزيمة يفتح شهية العدو الإسرائيلي نحو التوسع؛ يشكل ذلك تهديدا وجوديا للدول العربية بالمؤدَّى الاستراتيجي والاستدلال المنطقي، وعسكريًا وسياسيًا وجغرافيًا، كان من الطبيعي أن يعني ذلك تكثيف الاستعداد.
جاءت مخرجات المؤتمر العربي في الخرطوم الشهير بمؤتمر اللاءات الثلاث، لا تفاوض لا اعتراف لا سلام مع إسرائيل، بمقام الحاجة الملحة والاستجابة الواقعية لتلك المخاوف.
لقد أعادت القمة الجمهور العربي والإسلامي إلى الساحة بعد شعوره بالإحباط، وتضاعف حراك القوميين والتيارات اليسارية، وكان الافتراض الرئيس أن يميل الموقف الرسمي العربي إلى تعزيز الجهد العسكري ودعم المقاومة الفلسطينية، لكن التتبع التاريخي لا يقول ذلك، لاءات قمة الخرطوم لا تترجم، لن تصمد في كل الأقطار العربية باستثناء الساحة السورية.
انعكس ذلك سريعا على الساحة السياسية والأدبية والثقافية، وبرر بعضهم الميول نحو التسويات بأن الظهير الدولي (الاتحاد السوفيتي) يدعم أيضا حق “إسرائيل” في الوجود، وهو ما تقوله الولايات المتحدة الأمريكية، وهو الطريق لدعم القرار الدولي 242.
يتضمن القرار جناية جديدة بعد جناية التقسيم والاعتراف بكيان العدو الإسرائيلي، ويشمل الآتي:
- – انقلابا أمميا على قرار تقسيم الأراضي الفلسطينية 181.
- – الاعتراف بحدود جديدة لكيان العدو الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المعروفة بحدود 67، وتشكل نحو 80% من الجغرافية الفلسطينية.
- – حق “إسرائيل ” في العيش بسلام والتنقل بحرية في البحار العربية (يسميها القرار المسالك الدولية المائية في المنطقة العربية).
ومرة أخرى اعترف كيان العدو الإسرائيلي بعد مماطلة بهذا القرار وأضمر عدم تنفيذه، بينما عملت الولايات المتحدة الأمريكية على دفع النظام العربي الرسمي إلى الاعتراف به، وكان من الصعب أن يجري ذلك مع الخسائر العسكرية التي لحقت بالدول العربية، سيناء وصولا إلى قناة السويس وشرم الشيخ مصريا، وهضبة الجولان السورية، وقد أدركت الولايات المتحدة الأمريكية أن حربا قادمة لا بد أن تحدث؛ لذلك بدأ هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي بالتحرك لاختطاف تسوية تحقق أهداف العدو الإسرائيلي، المعادلة الخاسرة (الأرض مقابل السلام)، يتضمن القرار الدولي 242 ذلك.
ومن المفارقات التارخية الكبيرة أن الدول العربية تطالب الآن بتنفيذ القرار، بينما لا ينفذه كيان العدو الإسرائيلي.
إن التمنع العربي بدأ يُكسر عندما قدم الرئيس المصري أنور السادات مبادرة 1971 التي تشير إلى مفاوضات تتضمن انسحابا إسرائيليا من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967.
فيما بعد تقلصت مطالب الرئيس المصري إلى الحد الذي يطلب انسحابا محدودا من سيناء مرحلة أولى، ووجد ردا أمريكيا يقول: إنه يجب التوازن بين “أمن إسرائيل ” والسيادة المصرية أو العربية.
لقد أدخل في هذه الحالة مفهوم الأمن الإسرائيلي إلى جانب السلام معها، كان المطلوب عزل الدول العربية مرة أخرى عن مساعدة الفلسطينيين مقابل إعادة الأراضي العربية المحتلة خارج فلسطين، وهدنة طويلة مع كيان العدو الإسرائيلي، وكان أحد الأهداف الرئيسة الإسرائيلية الذي يمكن أن يوفره ” التطبيع العربي الإسرائيلي” أن تكوَّن للتو مفهوم جديد يشير إلى الأمن الحيوي للكيان.
إن تطبيقات التطبيع عند كيان العدو الإسرائيلي هو نتيجة يفرضها العمل العسكري أو قرار دولي، وليس بالضرورة أن يكون مباشرا، وأي تسوية تقوم على نتائج حرب 67 وكذلك الاعتراف بالقرار الدولي 242 هي بالضرورة نتيجة تحقق غاية من غايات الاعتراف بالكيان وتطبيع العلاقة معه.
لا يتوقف توصيف التطبيع في الاستراتيجية الإسرائيلية وتطبيقاته بصورة واحدة، وإنما يرتبط بتطور الصراع، ومن ثَمَّ لا يتشابه بين مرحلة وأخرى إلا بالقدر الذي تحدده نتائج الحرب العسكرية ” مبدأ القوة والمناورة السياسية”، “مبدأ الحيلة وقوة الحليف”، مبدأ الهيمنة الغربية “.
انتصار اكتوبر 73 وردة كامب ديفيد:
كان انتصار أكتوبر 1973 -المشترك المصري السوري- ضربة موجعة للمعادلات التي تطرح إسرائيليا وأمريكيا، وصحيح أنها لم تحقق كل الأهداف، لكنها أسست لمرحلة جديدة يمكن البناء عليها بما في ذلك تغيير موقف الاتحاد السوفيتي وسط الحرب الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية.
إن إنجاز حرب أكتوبر حرك دولًا عربية للمشاركة في المواجهة، والعودة لدعم العمل العسكري الفلسطيني، بينما حول الرئيس المصري أنور السادات النصر إلى هزيمة كبرى، ففي السنوات المقبلة بعد 73 جعل نتائج الانتصار مسارًا تفاوضيًا استسلاميًا، فضلا عن كسر التكامل العربي في مواجهة الكيان.
لقد بدأ الرئيس السادات يقود حربا نفسية داخلية عندما صور أن الولايات المتحدة الأمريكية ستدخل الحرب، أعطى مبررا لإعلانه في الـ20 من أكتوبر 1973 طلبا لوقف إطلاق النار، وقد مهد ذلك لمشروع القرار الأمريكي السوفيتي المشترك عن طريق مجلس الأمن الدولي 338.
وسقط الخيار العسكري المصري في زيارة السادات إلى القدس المحتلة 19 نوفمبر 1977 بوصفه مقدمة لكامب ديفيد؛ صنع ذلك متغيرا كبيرا في الفكر السياسي لكيان العدو الإسرائيلي فيما يتعلق بالتطبيع، فعلى الفور رفع الكيان سقف اشتراطاته وأدخل مفاهيم جديدة على المدلول المتغير للتطبيع، لم تكن كامب ديفيد من المنظور الإسرائيلي حالة يجب أن تقتصر على فصل مصر عن فلسطين والدول العربية في الصراع، وإنما أن تؤسس لتحول يبدأ من الاعتراف “بشرعية الكيان ” ” دولة يهودية قومية صهيونية”؛ يقتضي ذلك البدء بوضع القيود في أي علاقة حتى غير عسكرية مع منظمة التحرير الفلسطينية.
إن الاتفاقات السابقة من رودس إلى كامب ديفيد ستصنع الاتفاقات اللاحقة: أوسلو الفلسطينية ووادي عربة الأردنية؛ إذ إن ما بعد كامب ديفيد ستقود إلى ثلاثة مسارات:
- – التخلي عن الأرض الفلسطينية بما في ذلك المقدسات الإسلامية والمسيحية.
- – التخلي عن الشعب الفلسطيني وحقه في استعادة أرضه.
- – استبعاد الأنظمة والجيوش العربية من المواجهة من كيان العدو الإسرائيلي.
لقد ارتبط بقاء منظمة التحرير الفلسطينية بعوامل جديدة وتحالفات نشأت خارج الاعتماد على الأنظمة العربية، كان أبرز هذه العوامل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، ولهذا لم تكن زيارة الرئيس الفلسطيني وقائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات – وهو أول زعيم عربي يزور طهران بعد انتصار الثورة – مجرد موقف عابر.
ومع دخول العقد الثامن من القرن العشرين بدأت تتشكل المقاومات الفلسطينية واللبنانية بالطريقة المنتظمة، الأولى لمواصلة الكفاح الفلسطيني المسلح والثانية لمواجهة اجتياح العدو الإسرائيلي جنوب لبنان وصولا إلى بيروت، مع ذلك تزامن صعود المقاومات ذات الميول الدينية الإسلامية مع انتصار الثورة الإسلامية في إيران، إن هذا التزامن الذي يحاول بعضهم توظيفه بشكل مغاير للواقع إنما حدث مصادفة، لقد كان صيرورة ستحدث حتى لو لم تنتصر الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ومع ذلك كان لهذا الحدث الإيراني الإسلامي أن يغير احتفالات العدو الإسرائيلي بعزل مصر عن طريق كامب ديفيد إلى بكائيات ومخاوف حين تبنت الجمهورية الإسلامية في إيران دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وصنعت تحالفات واسعة مع التيارات العربية القومية واليسارية المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية.
ولعل المراقب للأحداث الفلسطينية والراصد لعمليات المقاومات في فلسطين ولبنان منذ 1983 سيدرك كيف أنها غيرت كثيرا في طبيعة الاستخدام الأمريكي للتطبيع.
ومنذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1985 مرورا بالعمليات الفدائية الفلسطينية واللبنانية وصولا إلى أسلو 1993 دفع الكيان أثمانا باهضة من الخسائر؛ أربكت استراتيجية التمدد والتوسع خارج الأراضي الفلسطينية ضمن مشروع “إسرائيل الكبرى”.
وقد ركز العدو الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية في المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية التي سبقت أسلو على مسارين:
- – سحب سلاح المقاومة الفلسطينية وتفكيكها.
- – نقل منظمة التحرير والأجنحة التابعة لها من مواجهة المحتل إلى مواجهة المقاومين.
لقد أدرك الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أن تطبيق الأهداف الإسرائيلية غير ممكنة، مثلما أدرك أن مماطلة الكيان وحتى الولايات المتحدة الأمريكية بالقرار الأممي 242 والاعتراف بالدولة الفلسطينية مسألة حتمية، وهو ما حدث.
إن المتغير الجديد هو أن تسليح المقاومة الفلسطينية وفعلها العسكري الموجع يغير بالضرورة أهداف العدو الإسرائيلي التي كان يحصل عليها إما بالقوة العسكرية وإما بالمناورة السياسية، ينطبق الأمر نفسه مع المقاومة الإسلامية في لبنان.
لم تكن المقاومات تعني فقط الفعل العسكري، بل الاحتضان الشعبي والالتفاف الجماهيري، وهذان العاملان دمرا قدرة الكيان على فرض التطبيع الإجباري الذي حاول مماررسته في لبنان، حين دمر البنية الاقتصادية اللبنانية وأراد تصدير إنتاجه للبنانيين بعد أن أنشأ معسكرات للعملاء على غرار جيش العميل حداد.
لقد حدثت المقاومة الشعبية نفسها في الجولان السوري المحتل؛ إذ استمر الحراك الشعبي الجماهيري في مدن هضبة الجولان، من مؤتمر مجدل شمس الذي رفض الضم الإسرائيلي إلى إضراب 1982 إلى المواجهات العسكرية في 1987 وطوال العقود التي مضت.
وعلى الرغم من فشل أسلو بقي المدلول الإسرائيلي للتطبيع فيها يعني “السلام ” مقابل نزع السلاح.
… يتبع

