مركز آفاق اليمن -وحدة تحليل السياسات
بعد إطلاق التحالف الذي قادته السعودية عدوانًا عسكريًا على اليمن تحت عملية “عاصفة الحزم ” في مارس 2015، ظهرت الإمارات مشاركًا رئيسًا بثاني أكبر قوة في التحالف وبعمليات برية وبحرية وجوية تجاوزت الدور السعودي بنحو 15 ألف جندي، وقوات بحرية تضم أكثر من 50 قطعة و3 آلاف بحار و30 طائرة حربية، شنت أكثر من 130 ألف غارة، كما أدارت سلسلة دعم لوجيستي بأكثر من 1000 رحلة بحرية لنقل ملايين الأطنان من المؤن والأسلحة والذخائر([1]).
بررت الإمارات مشاركتها في الحرب بوصفها إجراء ضروريًا لمواجهة تهديد استراتيجي لأمن منطقة الخليج، ولمواجهة ما سمته “الارتباطات الخارجية والأيديولوجيا المتطرفة للحوثيين”، لكنها وبعد حوالي 4 سنوات فشلت خلالها بتحقيق الأهداف، أعلنت انسحابها من التحالف مع الاحتفاظ بتحالفها السياسي مع السعودية وسحب تشكيلاتها العسكرية من اليمن([2]).
لكن انسحاب الإمارات كان في الواقع شكليا؛ إذ اعتمدت بعد سحب تشكيلاتها العسكرية، نهجًا غير مباشر في الحرب، أبقت فيه على بعض مراكزها القيادية، واستمرت بأعمالها العدائية تحت غطاء التدريب والتأهيل والتجهيز للقوات اليمنية المحلية، وتقديم الدعم اللوجستي والتدريبي لها، في حين شرعت بتأسيس قواعد عسكرية برية وبحرية بشكل منفرد مع بناء تشكيلات عسكرية محلية تقوم بالدور الإماراتي في اليمن بالوكالة.
كان واضحًا بعد أربع سنوات من مشاركتها العلنية في تحالف الحرب المدعوم أميركيا، تغيير الإمارات طابع مشاركتها العلنية المباشرة إلى مشاركة غير مباشرة على شاكلة تجاربها في ليبيا، لكن بصورة أكثر توسعًا وتنظيما.
والصورة الموسعة الجديدة شملت نشاطات لشركات إماراتية في إدارة سلسلة مصالح استراتيجية، بالتزامن مع بناء نفوذ عسكري في بعض المحافظات والجزر اليمنية القريبة من خط الملاحة الدولي المار بمضيق باب المندب إلى تشكيلها شبكات نفوذ مسلحة غير نظامية في مناطق القبائل، استخدمتها جماعات ضغط محلية.
وعلى رغم تشابه الظروف السياسية والأمنية التي فتحت الباب للتدخلات الإماراتية الأوسع في اليمن مع تلك التي شجعت الإمارات على التدخل غير المباشر في السودان وليبيا، من حيث الاضطرابات السياسية والأزمات والحروب والانقسامات، إلا أن مجال تدخلاتها في اليمن كان واسعًا ومعقدًا، وتعَّدى النماذج البسيطة لتدخلاتها في ليبيا والسودان.
والمشهد بعد 10 سنوات من مشاركتها في تحالف العدوان على اليمن، وبعد 6 سنوات من إعلانها الانسحاب من عملية “عاصفة الحزم” قدم دليلًا واضحًا على ذلك، فهي اليوم تمتلك -إلى جانب النفوذ العسكري المباشر وغير المباشر- شبكات من الوكلاء غير النظاميين والحلفاء التقليديين المنتشرين على طول الساحل اليمني، من المخا غربًا إلى عدن جنوبًا، وصولًا إلى مناطق الساحل الشرقي في شبوة وساحل حضرموت حتى سقطرى على المحيط الهندي.
أزيد من ذلك تمتلك قواعد دعم لوجستية ومتعددة المهام، ومراكز مراقبة واستطلاع، وقاعدة عسكرية بحرية وجوية في جزيرة ميون اليمنية (قيد الإنشاء)، يُنتظر أن تكون واحدة من أهم القواعد في المنطقة؛ نظرًا لموقعها الاستراتيجي بين الساحلين اليمني والإفريقي، فضلًا عن قاعدة عسكرية استراتيجية في محافظة شبوة تضم مركز قيادة عمليات وقاعدة سيطرة وتحكم محصنة تحت الأرض، ومركز تحكم لإدارة العمليات في اليمن والسودان([3]).
الانسحاب… انعطافة لتغيير الاستراتيجيات:
يمكن القول: إن انسحاب الإمارات من اليمن لم يكن انسحابًا كاملًا قدر ما كان انعطافة لتغيير الاستراتيجيات، انتقلت فيها الإمارات من مربع استراتيجية “الهيمنة المباشرة” إلى مربع “الهيمنة غير المباشرة” عن طريق الاعتماد على القوات المحلية الموالية، التي حافظت على نفوذ الإمارات في أجزاء واسعة من جنوب اليمن ومناطق استراتيجية عدة في الساحل الغربي.
وقد وصفت الإمارات بعد شهرين من بدء عمليات سحب تشكيلاتها العسكرية منتصف العام 2019 عملية انسحابها من اليمن بأنه “إعادة انتشار تكتيكي” وهو التوصيف الذي بدا دقيقًا ومطابقا للواقع([4]).
ذلك أن الإمارات وخلال يونيو/ يوليو 2019 بدأت بسحب بعض تشكيلاتها العسكرية التي شملت الدبابات والمروحيات الهجومية والآليات الثقيلة وآلاف الجنود من مواقع تمركزها في مأرب وعدن، واستمرت كذلك في محافظات لحج وحضرموت وشبوة.
لكن الانسحاب ظل شكليا؛ إذ احتفظت الإمارات بقوات إشرافيه محدودة في مواقع استراتيجية بمحافظة عدن ومحافظة حضرموت، وشرعت بالمقابل ببناء مراكز قوى محلية تدير المصالح الإماراتية بالوكالة في بقية مناطق النفوذ.
وعلى رغم أن الإمارات بررت انسحابها بالضغوط الدولية المتزايدة؛ نتيجة استمرار الهدنة القائمة على اتفاق استكهولم الموقع برعاية أممية في ديسمبر 2018، واكتمال مهامها العسكرية، إلا أن هناك دوافع أخرى دعتها لإعلان الانسحاب وتنفيذه بطريقة “إعادة الانتشار التكتيكي” أو تخفيض مستوى المشاركة.
يمكن الإشارة هناك إلى مجموعة من الدوافع الرئيسة التي تجنبت الإعلان عنها كالآتي:
- ●التكاليف الباهظة الناتجة عن طول أمد الحرب التي زادت بعد لجوء الإمارات إلى توسيع نطاقها لتشمل أوكاًرا تابعة لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
- ●التقديرات العسكرية بعد مضي أربع سنوات باستحالة تحقيق انتصار عسكري حاسم.
- ●تمكن حكومة صنعاء وأنصار الله من نقل الحرب إلى العمق الإماراتي والسعودي، وترسخ القناعة لدى شقي التحالف السعودية والإمارات بعدم إمكانية تحقيق نصر عسكري في المناطق غير المحتلة.
- ●الفشل في الحصول على مركز متساوي مع السعودية على رأس قيادة التحالف، على رغم محاولتها إدارة ودعم الكثير من العمليات العسكرية؛ نتيجة عدم توازن القوة الجيوسياسية مع الرياض.
- ●الضغوط الداخلية الناتجة عن طول أمد الحرب وتراكم الخسائر البشرية والمادية، وتضرر السمعة الدولية، الذي أنتج حالة تململ داخلي في بعض إمارات الدولة.
وبند التكاليف ظهر بوضوح بعد أربع سنوات من مشاركة الإمارات في عملية “عاصفة الحزم”؛ إذ كانت قد دفعت بحوالي سدس قواتها البرية والجوية والبحرية ممثلة ب 3500 جندي من قواتها البرية، أرسلتهم إلى اليمن، فضلًا عن 3 آلاف جندي وضابط من القوات الجوية الإماراتية والقوات البحرية.
وفي مراحل عدة كانت الإمارات تقود التخطيط الشامل للحرب، وتصيغ أهداف الحملات الجوية والبحرية والجوية، كما كانت تقود حملات دبلوماسية دعائية لتبريد سخونة الموقف الدولي، في حين كانت السعودية دائماً تقدم نفسها قائدًا أول.
والموقف الإماراتي تعاظم بعد الانتكاسة الدبلوماسية التي منيت بها السعودية جراء مقتل الصحافي عدنان خاشقجي؛ إذ شعر الإماراتيون بصعوبة تدارك الضرر الذي لحق بالسعودية على المستوى الدولي بعد أن ألقى الحادث الضوء أكثر على الجرائم الإنسانية المرتكبة خلال الحرب على اليمن.
يضاف إلى ذلك أن التقديرات الداخلية في أبو ظبي كانت تشير إلى أن الإمارات لم تحصل على شيء مقابل مشاركتها في عمليات التحالف في مقابل تكبدها خسائر كبيرة، وفشل العمليات الأحادية التي كانت تقودها في تغيير هذا الواقع.
وعلى رغم أن إعلان الإمارات الانسحاب من عملية “عاصفة الحزم” كان واضحًا في البداية، إلا أن الضغوط السعودية حملتها على تغيير معادلة الانسحاب إلى “إعادة انتشار تكتيكي” دعائي، تجنبت فيه ترك فراغ يمكن أن يهدم أركان علاقتها الاستراتيجية مع السعودية، وفي المقابل إفساح المجال لبناء شبكة مصالح جديدة خارج إطار النفوذ السعودي.
وفقا لذلك استطاعت الإمارات بناء مراكز نفوذ عسكرية وتقليدية جديدة، ولا سيما في المحافظات الجنوبية على وقع تحركات المجلس الانتقالي الجنوبي وأهدافه في فصل جنوب اليمن عن شماله، بواسطة شبكة معقدة من القوات والميليشيات المحلية التي أنشأتها ودرّبتها وموّلتها حتى صارت مراكز نفوذ قوية في مناطق انتشارها.
يضاف إلى ذلك دعمها وتمويلها وتدريبها قوات الحزام الأمني في محافظات: عدن، لحج، أبين، الضالع، قوات موازية تدين بالولاء للمجلس الانتقالي الجنوبي، وتسيطر على المرافق الحيوية والمفاصل الأمنية في عدن بعيدًا عن تلك الخاضعة للسلطة المعترف بها دوليا.
وكذلك دعمها وتمويلها قوات النخبة الحضرمية وقوات النخبة الشبوانية التي باشرت إجراءات السيطرة على المرافق الحيوية، مثل الموانئ ومنشآت النفط والغاز، وكذلك قوات ألوية العمالقة وحراس الجمهورية في الساحل الغربي ودعمها لبناء تشكيلات قتالية تتألف من عناصر سلفية وجهاديين سابقين، وعناصر من قوات الحرس الجمهوري.
وقد بلغ عدد القوات التي شكلتها الإمارات من اليمنيين الذين يدينون لها بالولاء نحو 200 ألف مقاتل، في حين استعانت الإمارات بمرتزقة من جنسيات مختلفة للقيام بمهام إدارة وحراسة قواعدها ومقراتها الرئيسة في الجنوب ما جعلها عاملًا محوريًا مستمرا في تعقيدات المشهد اليمني.
شبكة الحلفاء التقليديين… الولاء مقابل المكاسب:
في مقابل القوات العسكرية التي عادة ما تحمل مسميات نظامية، أنشأت الإمارات شبكة من القوات المحلية بالوكالة، وهي الشبكة التي سعت الإمارات بواسطتها -ولا تزال- لتكون قوتها بالوكالة لتنفيذ أجندات تتيح للإمارات تحقيق أهدافها من دون المساس بهياكل قواتها النظامية.
وأينما ذهبت اليوم تجد في مقابل النفوذ العسكري، شبكة نفوذ قبلية تتكون من تشكيلات عسكرية وأمنية محلية، تعمل خارج المؤسسات العسكرية التي تديرها حكومة المنفى المعترف بها دوليا، وولاؤها للإمارات، وهي قوات غير نظامية تمولها، وتدربها الإمارات لأداء وظائف معينة، ومنها على سبيل المثال:
- – قوات الحزام الأمني في محافظة عدن، وهي قوات أمنية موازية؛ تسيطر على المشهد الأمني والعسكري في العاصمة المؤقتة عدن وتنشط بدور مماثل في مكافحة الإرهاب.
- – قوات النخبة الحضرمية العاملة في ساحل حضرموت، وتعمل من أجل السيطرة على المنشآت الحيوية مثل ميناء المكلا ومكافحة تنظيمات إرهابية، مثل تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب.
- – قوات النخبة الشبوانية العاملة في محافظة شبوة تحت ذريعة حماية حقول النفط والغاز والأنابيب في المحافظة.
استطاعت الإمارات بناء هذه الهياكل غير النظامية في إطار حملات منظمة؛ لاستمالة القبائل والنخب الاجتماعية المؤثرة، عن طريق ضخ التمويلات والموازنات المالية الكبيرة ومنح المزايا التي تشمل منح الجنسية أو الإقامة، وتوفير وظائف ورواتب، ولا سيما في المناطق ذات الأهمية الاقتصادية، مثل سقطرى وحضرموت، وتقديم المنح الدراسية والمناصب السياسية والإدارية؛ لكسب وشراء الولاءات القبلية.
وفضلًا عن ذلك تمارس الإمارات وسائل ترهيب للقبائل الرافضة لسياساتها أو الموالية لحكومة عدن بأساليب ضغط؛ إذ استُخدمت لغة التهديد أو اتهامها بالإرهاب لعزلها وإرغامها على القبول.
والهدف الأساسي من موجة الاستقطابات الواسعة هذه كان ولا يزال يكمن في تأليب هذه القبائل على حكومة عدن، وكسر شوكة القبائل المعارضة للمجلس الانتقالي الجنوبي، وحماية المصالح الاقتصادية والعسكرية للإمارات، خاصة حول حقول النفط والغاز ومشاريع خطوط الأنابيب.
وبصورة عامة فقد استهدفت إيجاد واقع جديد في جنوب اليمن، يضمن للإمارات حضوراً قوياً ومؤثراً حتى بعد انسحاب قواتها العسكرية المباشرة، بواسطة شبكة معقدة من الحلفاء المحليين في المجالين العسكري والاجتماعي.
هياكل عسكرية وأخرى بالوكالة والهدف الجغرافيا الاقتصادية:
كانت الاستراتيجية العسكرية الإماراتية في اليمن قد شهدت تغيرا وتطورا في غضون السنوات التالية لمشاركتها المباشرة في تحالف العدوان على اليمن من هدف استعادة الحكومة الشرعية، وإنهاء ما سمته بالانقلاب إلى وجود عسكري غير مباشر متعدد المهام والأهداف، تشترك فيه التشكيلات النظامية وغير النظامية المنتشرة في جغرافيا يمنية واسعة، تمتد من حضرموت شرقا إلى عدن جنوبًا وإلى مدينة المخا غربًا، وصولا إلى التشكيلات مراكز النفوذ القبيلة غير النظامية التي تشكلت بفعل عوامل سياسية واقتصادية وامنية عدة، في شبوة وحضرموت وسقطرى.
والوجود الجديد للإمارات في اليمن تشكل بفعل التكاليف الباهظة التي تكبدتها، التي أنعشت بدوها الطموحات الإماراتية القديمة بالهيمنة على منافذ الملاحة الرئيسة في اليمن والتحكم في الممر المائي الاستراتيجي المار أمام المياه الإقليمية اليمنية وباب المندب.
كانت هذه الأهداف جزءًا من مشروع طموح تبنته الدولة الخليجية للتحول إلى قوة إقليمية فاعلة قادرة على حماية مصالحها الحيوية في منطقة شديدة الاضطراب وبالغة الأهمية، وفق استراتيجية طويلة الأمد سعت بواسطتها إلى تعزيز النفود ومد الجسور للتحالفات الإقليمية الساعية إلى السيطرة على حركة ونشاط الموانئ اليمنية ذات الأهمية الاستراتيجية في حركة التجارة العالمية والتأثير في حركة الممر المائي الاستراتيجي في باب المندب.
اضيف إلى أهدافها الاستراتيجية تلبية هواجسها التاريخية من مخاطر تمدد الإخوان المسلمين من فضائها الحيوي إلى عمقها الجغرافي الفقير بالموارد البشرية.
هذه المعطيات كانت كافية لاعتماد الإمارات استراتيجية “النفوذ بالوكالة” التي تجسدت في الواقع بالسيطرة على الجغرافيا الاقتصادية المعززة بالانتشار العسكري غير المباشر، وشبكات النفوذ عن طريق الوكلاء التقليديين بما في ذلك الموانئ البحرية والجزر والممرات المائية الحيوية.
أملت الإمارات في أن يؤدي ذلك إلى تحقق جانب من مصالحها الاقتصادية، وأن يتيح لها في المقابل دورًا في حركة التجارة العالمية وإمدادات الطاقة في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، يمكنها من إدارة عمليات عسكرية أو ممارسة ضغوط سياسية ذات أبعاد اقتصادية.
ويمكن القول: إن الوجود العسكري الإماراتي غير المباشر في اليمن اعتمد في مرحلة ما بعد إعلان الانسحاب على ركائز محلية مدعومة بتشكيلات عسكرية وأمنية مولتها ودرّبتها الإمارات، وتعمل بأوامرها بشكل أساسي، مثل قوات “الحزام الأمني” في عدن ولحج و”قوات النخبة” في حضرموت وشبوة، “ألوية العمالقة” و”قوات حراس الجمهورية” في الساحل الغربي مستفيدة من حالة الانقسام العتيدة في اليمن.
من اليمن إلى الصومال قواعد عسكرية ومراكز قيادة:
في مرات كثيرة زعمت الإمارات عدم امتلاكها لأي قواعد عسكرية تقليدية علنية في اليمن، لكنها واقعًا امتلكت ولا تزال قواعد عسكرية بالغة الأهمية والخطورة، فضلا عن امتلاكها “شبكة نفوذ عسكرية نظامية وغير نظامية ” تدار بقواعد ومراكز تعمل بأسماء محلية، وتخضع لإشراف مباشر من قيادات وقوات محلية مدربة ومسلحة تابعة لأبوظبي.
حاليا تتمركز هذه القوات في مواقع استراتيجية بمحافظات عدن ولحج وحضرموت وشبوة، وصولا إلى مدينة المخا بالساحل الغربي، وبعض الجزر اليمنية في البحر الأحمر والمحيط الهندي.
يمكن الإشارة هنا إلى واحدة من أهم القواعد العسكرية الاستراتيجية الإماراتية في جزيرة ميون، وهي قاعدة جوية وبحرية شيدتها الإمارات في الجزيرة الواقعة وسط مضيق باب المندب التي تفصل المضيق إلى قناتين، وتضم بحسب بيانات مؤسسات دولية مدرج طائرات بطول 3.2 كلم وقدرات مراقبة، يُعتقد أنها تعمل بمهام مشتركة مع قاعدة الظفرة الإماراتية في أبوظبي وقواعد أخرى تابعة للكيان الإسرائيلي.
تحدثت تقارير دولية ذات موثوقية عالية إلى أن الإمارات أسست القاعدة في هذه الجزيرة من طريق بناء المدرج الذي بدأ العمل به عام 2021، وكذلك بناء 3 حظائر للطائرات ومراكز مراقبة، في حين ربطت تقارير أخرى بين البناء في ميون وأنشطة متعددة لشركات شحن ومقاولات مقرها دبي؛ إذ جرى توريد المواد اللازمة للمشروع عبر هذه الشركات([5]).
والمُرجح أن الإمارات تعتمد حاليا على وكلائها المحليين لإخفاء إدارتها المباشرة لهذه القاعدة، ولا سيما “المجلس الانتقالي الجنوبي” المدعوم إماراتياً الذي، يقوم بالدور نفسه في محافظة جزر أرخبيل سقطرى.
ومشروع هذه القاعدة الجوية البحرية لم يكن الوحيد الذي أدارته ومولته الإمارات في الجزر اليمنية، فهناك تقارير مؤكدة كشفت عن بناء الإمارات شبكة من المواقع العسكرية واللوجستية في الجزر اليمنية الاستراتيجية، ومنها جزيرة زقر؛ إذ أظهرت صور أقمار صناعية في أكتوبر 2025 بناء مدرج جديد بطول 2 كلم، ويُعتقد أن الإمارات تقف خلف هذا المشروع بالتعاون مع وكلاء محليين في الساحل الغربي.
غير بعيد عن ذلك القواعد ومراكز المراقبة ومشاريع البنية التحتية في بعض جزر محافظة أرخبيل سقطرى ولا سيما في المناطق الخاضعة لسلطة “المجلس الانتقالي الجنوبي” كما هو الحال مع مدرج الطائرات الذي تم تشييده في جزيرة عبد الكوري، وكذلك ميناء المخا الذي ينظر إليه كقاعدة عسكرية إماراتية.
النفوذ العسكري لصالح النفوذ الاقتصادي… من شبوة إلى سقطرى:
هذه المشاريع العسكرية العملاقة تزامنت مع تشييد الإمارات معسكًرا أشبه بقاعدة عسكرية، هو معسكر مرة في محافظة شبوة الذي يضم مراكز قيادة عمليات وقاعدة سرية محصنة تحت الأرض، ومركز لوجستي وقيادي لإدارة العمليات في اليمن والسودان، فضلًا عما يشمله من مدرجات ومستودعات أسلحة وذخائر، وكذلك قاعدة ميناء بلحاف التي ينظر إليها بعضهم أنها قاعدة لوجستية وموقعًا رئيسًا للتحكم في خطوط أنابيب النفط والغاز والصادرات والطاقة.
وطبقًا لتقارير وتحليلات صور الأقمار الصناعية، فقد أنشأت الإمارات خلال السنوات الماضية عددًا من المنشآت العسكرية والأمنية في جزر أرخبيل سقطرى، كما سيطرت على منشآت حيوية، مثل مطار سقطرى والميناء الرئيس والمباني الحكومية في حديبو عاصمة الجزيرة([6]).
من ذلك القاعدة الجوية القريبة من مطار سقطرى، ومعسكر “بلعبوده” على بعد حوالي 4 كلم غربي مطار سقطرى، والقاعدة الجوية المتعددة الأغراض في جزيرة عبد الكوري والمزودة بمدرج يمتد لـ 3 كلم، مزودة برصيف بحري، ومهبط للمروحيات، وأبراج مراقبة، تشير تقارير إلى استخدامها بالتنسيق مع قواعد أخرى في شمال الصومال، فضلًا عن مشاريع قيد الإنشاء في جزيرة سمحة.
يضاف إلى ذلك موقع المراقبة الذي شيدته شمال شرق سقطرى، وموقع المراقبة والاستطلاع الذي استولت عليه بمساعدة قوات المجلس الانتقالي في منطقة رأس قطينان جنوب غرب سقطرى، ناهيك عن تشييدها عددًا من المعسكرات ونقاط التفتيش في أكثر من 20 موقعًا، وتدريب قوات عسكرية غير نظامية بعدد يناهز الـ 5 آلاف جندي تحت مسمى القوات الخاصة.
والطموحات الإماراتية في اليمن لم تنته بمحاولات فرض السيطرة على المنافذ البحرية الاستراتيجية، بل امتدت للسيطرة على الموارد والطاقة، وهو الدور الذي بدا واضحًا في مشاريعها القائمة حاليا في السيطرة على حقول النفط والغاز اليمنية، في محافظتي شبوة وحضرموت.
وعلى خطى القاعدة التي تقول: إن النفوذ الاقتصادي يعزز النفوذ السياسي والعسكري، حصلت شركات إماراتية مثل “باسكو إنرجي” في مارس 2023 على عقود احتكارية لتشغيل وتمويل وحدة إنتاج غاز منزلي (LBG) في حوض المسيلة بحضرموت، أملًا في الاستحواذ على موارد طاقة رخيصة تحقق لها أرباحاً كبيرة.
يضاف إلى ذلك شركات إماراتية أخرى حصلت على عقود وامتيازات في قطاعات حيوية في جنوب اليمن، مثل:
- ● شركة مليح لاستثمارات النفط والطاقة التي حصلت على عقد إنشاء وتشغيل مصفاة لتكرير النفط الخام بقدرة 25,000 برميل يومياً في المرحلة الأولى في منطقة الضبة، محافظة حضرموت،
- ● شركة NX للاتصالات الاتصالات التي أنشأت شركة اتصالات مشتركة لتقديم خدمات الهاتف النقال والإنترنت، في عدن وامتداداً للمحافظات الأخرى.
- ● شركة أجهام / ثاني دبي للتعدين والنقل إنشاء وإدارة ميناء قشن البحري المخصص للنشاط التعديني بنظام (O.T) محافظة المهرة([7]).
وتبدو الإمارات اليوم في طريقها إلى الهيمنة على سلاسل الإمداد والخدمات اللوجستية بعد أن توسعت شركات لوجستية إماراتية مثل “بورترانس” و”جي إيه سي” بقوة في اليمن، وسيطرت على أسواق النقل والخدمات اللوجستية في بعض الموانئ الرئيسية، وكلها تتحكم بشكل فعال في عمليات الاستيراد والتصدير اليمنية، وتوجه أرباحها إلى خارج اليمن ما يثري الاقتصاد الإماراتي على حساب التنمية المحلية في اليمن.
هل حققت الإمارات أهدافها الاستراتيجية؟
التواجد العسكري الإماراتي في اليمن سواء المباشر أم غير المباشر لم يكن جزافيا أو عملية تطوعية تفرضها ظروف معينة، بل كان أجندة مخططة ومنفذة بعناية استهدفت بواسطتها الإمارات تحقيق مزايا اقتصادية، ولا سيما في حماية المصالح التجارية والمحافظة على التفوق الاقتصادي عن طريق إضعاف منافسة الموانئ اليمنية، وخصوصا ميناء عدن المطل على بحر العرب لصالح استمرار نشاط ميناء جبل علي الإماراتي الذي يدر عليها مليارات الدولارات سنويًا.
وخلال السنوات الأخيرة غيرت الإمارات أهدافها الاستراتيجية المعلنة سابقا بعدد من الأهداف الاستراتيجية التي صارت طاغية على أجندة الدور الإماراتي في اليمن التي سعت إلى تعزيز طموحاتها بالهيمنة على منافذ الملاحة في اليمن ومنطقة القرن الإفريقي، والتحول إلى قوة إقليمية فاعلة قادرة على حماية مصالحها الحيوية في منطقة شديدة الاضطراب وبالغة الأهمية.
وتغيير الأهداف في معادلة جني الثمار بدا واضحًا في اتجاه الأجندة الإماراتية نحو السيطرة غير المباشرة على المنافذ البحرية الرئيسة اليمنية في البحرين العربي والأحمر وبعض الجزر الاستراتيجية على البحر الأحمر والمحيط الهندي.
عكس هذا التغير توسعًا أفقيا في خارطة السيطرة التي كانت محصورة سابقا على الموانئ اليمنية الاستراتيجية، كميناء عدن التاريخي لتشمل اليوم طموحات التحكم بحركة مضيق باب المندب، أحد أهم ممرات النفط والتجارة البحرية في العالم، وإنشاء سياج حماية لخطوط الإمداد الإماراتية، وتعزيز مكانتها قوة بحرية إقليمية.
واليوم تبدو الإمارات قد سيطرت فعليا عبر شركاتها وتمويلاتها المالية على ميناء المخا المطل على البحر الأحمر وباب المندب، بعد أن مولت مشاريع إعادة تأهيل الميناء، والحال كذلك مع مينائي الضبة والشحر في حضرموت على بحر العرب، ما عزز من نفوذ الشبكة اللوجستية الإقليمية للموانئ الواقعة خارج الأراضي الإماراتية.
في هذا المسار حاولت الإمارات أيضا السيطرة على بعض الموانئ الصومالية المطلة على البحر العربي، وخصوصا في المناطق الانفصالية بشمال الصومال، عن طريق استثمارات تجارية وعسكرية وإبرام اتفاقيات طويلة المدى، كما حصل في الاستثمار الذي ادارته شركة “موانئ دبي العالمية” في جمهورية أرض الصومال الانفصالية غير المعترف بها دوليا بقيمة 442 مليون دولار؛ لتطوير ميناء بربرة، وهو المشروع الذي أدى إلى توترات دبلوماسية مع الحكومة الصومالية المركزية في مقديشو، وألغي تاليا من الحكومة الصومالية، التي اعتبرت الاتفاق باطلًا لأنه ينتهك سيادتها.
كما حاولت الإمارات استئجار قاعدة عسكرية في بوصاصو لمدة 30 عامًا، لاستخدامها محطة إمداد لوجستي، في المشروع الذي لا يزال مستمرا حتى اليوم بحكم الأمر الواقع على رغم عدم الاعتراف الرسمي من مقديشو بهذه الاتفاقية، خصوصًا مع استخدام القاعدة من قبل القوات الأميركية في عمليات مكافحة الإرهاب.
وفي الجوار حاولت فرض السيطرة على موانئ في جيبوتي عن طريق مشروع استثماري لإدارة ميناء دوراليه، غير أن عقد الاتفاق فُسخ من جانب حكومة جيبوتي عام 2018 بعد نزاع بين البلدين حول شروط الاتفاقية.
وعلى أن أكثر المحاولات الامارتية بالسيطرة على موانئ دول القرن الإفريقي المشاطئة لليمن، إلا أن معظم اتفاقياتها وعقودها انتهت بمواجهات قانونية وسياسية، مع محافظة الإمارات على وجودها الفعلي في بعض المناطق، في حين أسهمت الظروف الأمنية التي يواجهها اليمن، ولا سيما في مناطق حكومة عدن على فرض الإمارات سيطرة كاملة على بعض الجزر، الموانئ معززة بتواجد عسكري بالوكالة من قوات نظامية يمنية مدعومة من الإمارات.
وخريطة النفوذ القائمة اليوم تكشف عن هدف حيوي آخر يتمثل بتعزيز الأمن القومي ومكافحة الخصوم الإقليميين المحتملين؛ إذ يمنح الوجود الإماراتي في اليمن هذه الدولة الخليجية الصغيرة، عمقاً استراتيجياً لمواجهة ما تعتبره تهديدات أمنية، وفي المقدمة جماعة الإخوان المسلمين التي يمثلها في اليمن حزب الإصلاح، وتنظيم “القاعدة” في جزيرة العرب.
الأهمية الجيوستراتيجية والمطامع الدولية:
ما تفعله الإمارات اليوم في اليمن سواء بشكل منفرد أم بتنسيق مع قوى إقليمية ودولية ليس غريبًا ولا جديدًا، فالتنافس الدولي للسيطرة على اليمن ظاهرة تاريخية سببها الموقع الجيوستراتيجي الحرج لهذا البلد الذي جعله موضع تنافس بين الإمبراطوريات القديمة والحديثة، ولا يزال حتى اليوم موضع مطامع كل القوى الإقليمية والدولية التي لها مصالح في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي والتجارة البحرية العالمية.
ويجب الإشارة هنا إلى أن التنافس الإقليمي والبحث عن فرص قليلة الكلفة وكثيرة العائد، هو من دفع الإمارات إلى توجيه مواردها الاقتصادية لبناء شبكة نفوذ تمتد من الخليج إلى سواحل اليمن والقرن الإفريقي في إطار تسابق النفوذ الذي تخوضه مع قطر وتركيا.
السبب في ذلك أن الموانئ اليمنية والصومالية والجيبوتية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن والبحر العربي تكتسب أهمية جيوستراتيجية كبيرة لوقوعها على حواف طريق الملاحة الدولي الواصل بين قناة السويس ومضيق باب المندب، وهو الأمر الذي طالما اتسق مع الطموحات الإماراتية باستخدامها قواعد عسكرية خارج الأراضي الإماراتية.
وموقع اليمن الجغرافي يُفسر ببساطة المطامع الإقليمية والدولية التي تحاصره اليوم، فهو يقع في الركن الجنوبي الغربي من شبه الجزيرة العربية، مما يجعله جسراً برياً بين آسيا وإفريقيا.
يضاف إلى ذلك سواحله الشاسعة البالغ طولها حوالي 2500 كم، ووجود أكثر من 200 جزيرة في ميزات جيوستراتيجية جعلت اليمن دولة بحرية بمميزات لا تقتصر فقط على الثروة الاقتصادية المحتملة فحسب، بل تمنح اليمن قدرة على التحكم بأوسع مجال بحري في المنطقة.
[1] “الامارات اليوم” تقرير بعنوان التسلسل الزمني لمشاركة الإمارات في ” عاصفة الحزم” و” إعادة الأمل” في اليمن+ Wikipedia Saudi-1ed intervention in the yemene civil war
[2] المصدر نفسه
[3] – https://www.aljazeera.net/news/2017/10/23
[4] – المصدر نفسه.
[5] – ينظر لتقارير موثقة أصدرتها وكالة أسوشيتد برس الأميركية معززة بالخرائط وصور الأقمار الصناعية
[6] DEFENSE OF DEMORACIES: UAE LIKELY BUILDING AIRSTRIP ON STRAEGIC ISLAND IN RED SEA. Bridget Toomey
Kashmir OBSERVER: UAE-backed Airstrip on Yemeni Island Tightens Squeeze Houthis
[7] “الموقع بوست” ثلاث شركات إماراتية تعمل في اليمن وتستحوذ على أهم القطاعات وتسبب تداعيات واسعة. “معهد دول الخليج العربية” المصالح الاستراتيجية الثلاث للإمارات في اليمن.

