أحمد رفعت يوسف
كاتب وباحث سياسي
يمكن عدَّ المرحلة الممتدة- من حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، إلى سقوط نظام بشار الأسد في سورية، مرحلة تاريخية واحدة- أن المنطقة شهدت فيها تطورات وتفاعلات كثيرة وكبيرة، ولكن ضمن التركيبة الجيوسياسية القائمة، وكان هدفها الأساسي تفكيك عوامل القوة التي مكنت العرب من خوض المعركة، التي كادت أن تودي بالكيان الصهيوني.
من أهم الأحداث التي شهدتها المنطقة -خلال تلك الفترة، الممتدة على مدى أكثر من خمسة عقود- انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، التي كانت لوحدها خارج نطاق المشروع الصهيوني الأمريكي الغربي، وما عداها كانت كلها ضمن هذا المشروع، وأهمها توقيع اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر عام 1979، والحرب العراقية الإيرانية على مدى سبع سنوات، ثم غزو العراق للكويت عام 1990، ثم حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت عام 1991، ثم مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، وما نتج عنه من اتفاقيتي وادي عربة وأوسلو، ثم غزو العراق عام 2003، ثم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005، ثم تقسيم السودان عام 2011، وصولًا إلى “الربيع العربي” الذي كان نتاجًا لكل هذه التطورات، وما شهدناه من طرح مشروع الشرق الأوسط الجديد؛ لتقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية، وتسليمها للإخوان المسلمين، وما شهدته من حراكات سلمية وغير سلمية، أدت إلى تغيير الأنظمة في مصر وتونس وليبيا واليمن؛ ليتعثر المشروع في سورية، التي تحولت -على مدى أربعة عشر عامًا- إلى ساحة للصراع بين القوى الإقليمية والدولية، وانتهت بسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، وتسلم حركة تحرير الشام (جبهة النصرة – القاعدة) السلطة، وتداخل الحدث السوري مع تداعيات طوفان الأقصى، وضرب المقاومة اللبنانية، والصدام الإيراني الإسرائيلي.
يمكن اعتبار الحدث السوري -بما كانت تمثله سورية من هوية وطنية وقومية- نهاية لتلك المرحلة، وبداية لمرحة جديدة؛ لأن هذا التغيير الدراماتيكي أدى إلى تطورات جيوسياسية، نسفت كل أسس التوازنات الإقليمية والدولية التي كانت قائمة بشكل غير مسبوق في تداعيات حدث آخر، وبدء إعادة تشكيل المنطقة على أسس جديدة، لم تتضح معالمها بعد، لكن أحد أهم محاولات تظهير الصورة الجديدة للمنطقة هو الصراع على من يقودها، ويحدد بوصلتها وتوجهاتها.
يمكن اختصار النتائج الجيوسياسية لهذه المرحلة بأنها انتهت بإخراج ثلاث دول، من التي يمكن أن تقود المنطقة من ساحة المنافسة، التي كان يمكن أن تشكل خطرًا أو تضادًا مع المشروع الصهيوني الأمريكي الغربي، وهي مصر والعراق وإيران؛ لينحصر الصراع على قيادة المنطقة، بين تركيا والسعودية.
شهدت الأروقة والكواليس السياسية والدبلوماسية، معارك شرسة بين البلدين؛ للحصول على تفويض إقليمي ودولي لقيادة المنطقة، بلغت ذروتها في استثمار التغيير الذي جرى في سورية؛ للحصول على هذا التفويض، باعتبار أن سورية بما تمتلكه من موقع جيوسياسي فريد، يجعلها مفتاح المنطقة ونقطة التوازن الاستراتيجي فيها، ولا يمكن لأي قوة إقليمية أو دولية أن تهيمن على المنطقة، التي تُعدَّ المؤشر على صعود وهبوط الإمبراطوريات والدول العظمى، بدون أن تضمن سورية إلى جانبها.
حاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المستحيل لكي يحصل على هذا التفويض، مستفيدًا من الموقع الجيوسياسي المهم لتركيا، ومن دوره في التغيير في سورية، وعضوية بلاده في حلف شمال الأطلسي، ودورها المركزي في الكتلة الأوراسية الصاعدة، وفي الصراع الأمريكي الأوروبي مع روسيا، والحرب الأوكرانية، وفي جوارها لإيران، والأهم في علاقاتها الخاصة مع الكيان الصهيوني، والدور الذي يمكن أن يؤديه اليوم، في تنفيذ الاتفاقات حول غزة.
على رغم كل هذه الميزات الفريدة لتركيا، لكن أردوغان فشل في محاولاته الحصول على التفويض الذي حلم به لأسباب متعددة، أبرزها احتراق الورقة الأهم، التي كان يمتلكها (فليحكم الإخوان) مع سقوط اليمين المحافظ، ورؤيته للمنطقة التي تضمنها مشروعهم للشرق الأوسط الجديد، وتحول قضية المجاهدين -لاسيما الأيغور والشيشان والقوقاز والأوزبك، الذين جُلبوا إلى سورية، برعاية أردوغان نفسه، لاستخدامهم لاحقًا في الصين وروسيا- من ورقة بيده إلى أزمة دولية.
كما أن سياسات أردوغان تتناقض كليًا مع رؤية ترامب وتياره للمنطقة، القائمة على التهدئة والهيمنة الاقتصادية والتنمية، بدل الغزو والعمل العسكري؛ للتفرغ للصراع مع الصين، كما أيقظت أحلام أردوغان بعثمانية جديدة، الصور المأساوية للإمبراطورية العثمانية في الذاكرة الأوروبية.
كما أن الدور الذي يطمح إليه أردوغان، يتناقض مع الهدف الإسرائيلي للهيمنة على المنطقة، وهو ما نراه في الصراع القائم بين الجانبين في سورية.
يضاف إلى كل ذلك، أن تركيا الأردوغانية باتت على عداء صامت أو واضح مع كل دول المنطقة باستثناء قطر، وهو ما حول الهدف التركي مع صعود ظاهرة الأردوغانية، بأن تكون “صفر أعداء” لتصبح اليوم في وضع “صفر أصدقاء”.
أما السعودية، فقد خرجت من هذه المرحلة، وهي تمتلك أوراقًا أقوى، بموقعها الخاص في العالم الإسلامي والخليج والمنطقة العربية، وبامتلاكها الثروة، التي تفتح شهية ترامب وأمريكا والغرب المأزوم، وبعدما تفرغت لها الساحة بتقييد الدول المنافسة لها في قيادة المنطقة، وبعد التغيير الذي حدث في سورية، وإخراج إيران منها، إضافة إلى وجود نوع من التوافق، والحاجة المشتركة مع الكيان الصهيوني، حول عدد من ملفات المنطقة، ومنها الموضوع الفلسطيني، والوضع في غزة، ومحاربة الإسلام السياسي، والدور الذي يقوم به محمد بن سلمان، بتحويل المملكة من دولة إسلامية متشددة إلى دولة متناغمة مع القيم الغربية، بالإضافة إلى علاقاتها الجيدة مع كل الدول، لاسيما المؤثرة في المنطقة والعالم.
مجمل هذه الأوراق، جعل كفة السعودية راجحة بشكل كبير على تركيا؛ لتوليتها قيادة المنطقة، وهو ما توضح في أكثر من مناسبة وحدث، أبرزها اختيار الرئيس ترامب السعودية أول دولة يزورها بعد وصوله مجددًا إلى البيت البيض، خارقًا بذلك العرف الأمريكي، بأن تكون أول زيارة لبريطانيا، فيما قابل الرئيس ترامب كل محاولات الرئيس أردوغان لزيارة واشنطن بالرفض، ولم تحدث أخيرًا إلا عن طريق مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ضمن بروتوكولات “زيارة عمل” وبعد وساطة من ابن ترامب، وبعد تقديمه وعود بشراء طائرات عسكرية ومدنية أمريكية.
كما ظهر ذلك واضحًا الاستقبال المميز، خلال الزيارة “الرسمية” التي قام بها محمد بن سلمان قبل أيام لواشنطن، والحفاوة التي لقيها من الرئيس ترامب، المعروف بغطرسته، مع معظم زواره في البيت الأبيض.
واضح من هذه الوقائع والمعطيات أن راية المنطقة أعطيت للسعودية، لكن هذا التفويض يأتي وسط عالم متحرك ومتبدل المصالح، ومفتوح على كل الاحتمالات “والمفاجآت” مع التغيرات المتسارعة، التي تشهدها توازنات القوى والقوة في المنطقة والعالم، التي قد تغير كل هذه المعطيات، وهذا ما يجب مراقبته في المرحلة القادمة.

