طالب الحسني/ كاتب وباحث سياسي
اتسمت إدارة الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي “بالانعزال ” منذ عقود على الرغم من أهمية جغرافية الدولة المطلة على البحر الأحمر والقريبة من باب المندب، بالإضافة إلى ترتيبها في دول القرن الإفريقي.
لربما كان ذلك متعمدًا ضمن استراتيجية الدولة لحماية بيئة النظام الشعبية من التأثير، لكن الباب ليس مغلقا كحالة مطلقة، طالما احتاجت أسمرة أن تبدد ما تختاره من “الاتهامات” المتكررة التي تحيط بالرئيس وحزبه الحاكم.
خلال مقابلة –نادرة- بثها التلفاز الإرتيري الرسمي بتاريخ 4 نوفمبر2025 أفصح أسياس أفورقي عن جملة من المواقف أبرزها ما يتعلق بالنشاط الإقليمي والدولي المزعزع للاستقرار في البحر الأحمر وممر باب المندب والمنطقة الإفريقية والآسيوية المطلة (الخليج واليمن).
يمكن ترتيب ما قاله في النقاط الآتية:
- ●التدخلات الخارجية لا تساند دول القرن الإفريقي بل تقودها إلى عدم الاستقرار.
- ●استدعاء أطراف إقليمية أو دولية بوصفه خطًا استراتيجيًا يسهم في توسع الصراع.
- ●وجود مزيد من القواعد العسكرية الأجنبية يهدد أمن منطقة الممر البحري من باب المندب إلى قناة السويس.
- ●الدول المطلة على البحر الأحمر هي المعنية بالأمن والاستقرار في المنطقة.
- ●التدخل الخارجي العامل الرئيس لعدم الاستقرار في اليمن ويهدد الصومال بالتقسيم، والبحث عن قواعد عسكرية في جزر يمنية يعمق النزاع.
لا تشكل هذه الأفكار استحداثا في السياسة الإريترية، لكن الحديث عنها في التوقيت الحالي استقطب أوراقًا بحثية ودراسات وأضواء على سلسلة كبيرة من القضايا وموقع أسمرة منها.
يمكن اعتبار ما جاء في المقابلة مقدمة لفهم سياسة أفورقي الخارجية الجديدة المرتبطة بالقرن الإفريقي، وذلك عن طريق التركيز على أهمية التصريحات الأخيرة للرئيس الإرتيري وخلفياتها وتوقيتها والرسائل المتضمنة والموجهة.
تصريحات جديدة أم موقف قديم؟
كرر الرئيس الإرتيري مفهوم ارتباط التدخلات الخارجية بعدم الاستقرار وديمومة النزاع في دول القرن الإفريقي أكثر من 4-5 مرات بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وخلال مراجعة تاريخية للكثير من تصريحات أفورقي نجد أن ذلك في صلب التجربة الإرتيرية.
إن قدمية ومعاصرة أفورقي – بوصفه زعيمًا عسكريًا وسياسيًا على رأس الدولة لم يتجاوز 40 عاما – 32 مما بعد الاستقلال ونحو عقد قبله (العمل العسكري من أجل التحرير) تجعله شاهدًا وجزءًا من تاريخ طويل في القرن الإفريقي، وقد ترجم ذلك في عزوفه عن الانضمام للمحاور مع أنه أقرب إلى روسيا والصين.
تتوافق تصريحاته عن القواعد العسكرية الأجنبية وتأثيرها مرورا بضرورية الدور الذي يجب أن تؤديه الدول المشاطئة للبحر الأحمر، وصولًا إلى التحذير من استمرار هذا النهج مع المبدأ الأول (حساسية التدخلات الخارجية).
على أن ما قاله الرئيس الإرتيري ليس جديدًا، لكنه لا يفهم على هذا النحو في العلاقات الدولية، بل سيقرأ بأبعاد مختلفة ضمن إطارين:
الأول: تأكيد الدولة الإريترية على رفض التدخلات الخارجية في القرن الإفريقي ومنطقة البحر الأحمر وباب المندب وخلفها، وتصنيف ذلك في مربع منع الاستقرار واختطاف سيادة الدول المشاطئة والمتجاورة.
الثاني: تأكيد إرتيريا على تموضع سياستها الخارجية مع الدول وحتى الكيانات التي ترفض الهيمنة الغربية والخارجية وأي نشاط يعسكر البحار لأي سبب بما في ذلك ” التذرع بحماية الملاحة الدولية “.
لماذا الآن؟
الأهم في تصريحات أفورقي هو التوقيت، ومن الواضح أن تحديده اختير بعناية، ولم يكن مصادفة عقب زيارته لمصر وقبل ذلك لروسيا.
يمكن رؤية ثلاث خلفيات مرتبطة بتوقيت إطلاق هذا النوع من الخطاب:
- 1-التدخل الإماراتي ودول إفريقية أخرى في الحرب السودانية المستمرة عن طريق تسليح قوات الدعم السريع التي يقوها محمد حمدان ديقلو (حميدتي).
ومن المنطقي أن يثير ذلك مخاوف دول على غرار إرتيريا، لاسيما أن الدور الإماراتي مسكوت عنه في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية، تضاعف حجم القلق عقب قيام قوات الدعم السريع بتصفيات وإعدامات جماعية مسجلة خلال اقتحام مدينة الفاشر عاصمة اقليم دارفور، دون ردود فعل دولية وإقليمية موازية للخطورة.
- 2-الحماس الأمريكي والأوروبي وبعض العربي في توسيع التحالفات والنشاط في البحر الأحمر وباب المندب؛ بهدف استعادة النفوذ والهيمنة وصولا إلى تشكيل تهديد لليمن.
إن هذا النشاط من منظور إرتيري يتجاوز تهديد اليمن إلى تهديد دول المنطقة، ولذلك اعتبر أفورقي تكوين قواعد في جزر يمنية عملية توسيع للنزاع وعدم الاستقرار.
يدخل ضمن ذلك الوجود العسكري الأجنبي في الصومال وخطط تقسيمها والتدخل في شؤونها.
- 3-سلوك إثيوبيا العدائي، وهو واحد من المحاور المشتركة المصرية الإريترية.
تلتقي القاهرة وأسمرة بدرجة متقاربة، وتليها الصومال واليمن وجيبوتي في ضرورة مراقبة السلوك الإثيوبي والتصدي له بوصفه ضمن التهديدات الحالية والمستقبلية، ما يجعل قوة هذه الإشارة أنها تأتي عن طريق النظام الارتيري المراقب القريب للتحركات الإثيوبية.
تتلخص الإشارات من رأس الدولة الإريترية في الآتي:
- ●تعارض إرتيريا الدور الإماراتي في السودان والصومال، وتعده خطرًا يستهدف المنطقة.
- ●تنظر أسمرة إلى البرود الأمريكي والأوروبي، وكذلك العربي إلى أنشطة الإمارات وشراكتها في جرائم إبادة مع قوات الدعم السريع في السودان تهديدًا يمكن أن يتكرر في دول أخرى.
- ●لدى النظام في إرتيريا مخاوف واسعة من النشاط الأمريكي والأوروبي ودول أخرى في البحر الأحمر وترفض التحالفات التي تتكون بذريعة “حماية الملاحة الدولية”.
- ●يمكن لأسمرة أن تدعم أو تكون جزءًا (إلى حد ما) مع الأطراف المعنية بمواجهة الهيمنة الأمريكية، وهذا ما يسميه أفورقي بالتكامل.
وفي المقابل تسهم تصريحات الرئيس الإرتيري في تعزيز مفهوم الرفض الرسمي والشعبي للتدخلات الخارجية في المنطقة بوصفه مشروعًا مشتركًا مفترضًا للدول المشاطئة للبحر الأحمر، ما يوجب على صنعاء التواصل مع أسمرة وإشعارها بأهمية التعاون في مواجهة التهديدات الخارجية المشتركة.

