“عملية رمح الجنوب” الأمريكية على فنزويلا… انقلاب أبيض أم حرب قاتمة؟

أبو-بكر-عبدالله 3

أبوبكر عبد الله*

تحاول واشنطن توسيع العمليات العسكرية -التي تشنها على من تسميهم كارتيلات تهريب المخدرات في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ- إلى حرب مباشرة على فنزويلا، مع تقديم مسؤولي البنتاغون خططًا إلى الرئيس ترامب تتضمن خيارات شملت -إلى جانب احتمالات أخرى- عمليات عسكرية في فنزويلا، غير أن هذه الخطط تواجه عقبات قانونية وسياسية جعلت “عملية رمح الجنوب” المعلن عنها مؤخرًا” تترنح يبن خياري الحرب المكلفة والتغيير السياسي الناعم.

على رغم استمرار واشنطن بنشر ذائع الحرب على تجارة تهريب المخدرات من فنزويلا إلى الأراضي الأمريكية، إلا أن الأيام الماضية شهدت تصعيدًا خطيرًا في تعزيز الترسانة الأمريكية العسكرية في البحر الكاريبي مع وصول حاملة الطائرات الأكبر في العالم “جيرالد فورد” إلى هناك، بالتوازي مع نشر قوات بحرية في الجزر الأمريكية القريبة من السواحل الفنزويلية، معززة بسفن حربية وغواصات ومقاتلات من طراز F-35 وطائرات تجسس.

آخر التداعيات كانت في إعلان وزير الحرب الأمريكي بيت هيجست عن توجيه الرئيس ترامب لإطلاق “عملية رمح الجنوب” “ضد الإرهابيين المرتبطين بتجارة المخدرات في نصف الكرة الغربي؛ بهدف “حماية وطننا وتأمينه ضد المخدرات”.

وهذا التصريح عن عمليات عسكرية أمريكية في فنزويلا لم يكن الوحيد، فقد تزامن مع تصريحات لمسؤولين أمريكيين تحدثوا صراحة عن خطط أمريكية للإطاحة بنظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، بوصفها الوسيلة الأفضل لوقف تهريب المخدرات قبل أن يطلب الرئيس ترامب من كبار مسؤوليه العسكريين خططًا تتضمن خيارات الحرب المباشرة، أو الإطاحة بنظام الرئيس مادورو دون الغرق في مستنقع حرب واسعة في هذا البلد، الذي يعيش حالة استنفار قصوى منذ أسابيع؛ استعدادًا لمواجهة الغزو الأمريكي المحتمل.

لكن البيانات والتصريحات الأخيرة الصادرة عن البيت الأبيض بشأن فنزويلا كانت مضطربة، وتشير إلى وجود انقسام بين مؤيد لتوسع العمليات العسكرية الجارية حاليا في الكاريبي إلى حرب مباشرة ضد فنزويلا، ومعارض يطالب ببقاء العمليات محصورة في غارات تستهدف شبكات تهريب المخدرات دون تدخل عسكري مباشر.

وخلال الأيام الماضية لم تتوقف محاولات إدارة ترامب الحصول على رأي قانوني مفصّل من وزارة العدل يوفر مبررًا لتنفيذ ضربات ضد أهداف برية في فنزويلا من دون الحاجة إلى طلب تفويض من الكونغرس، غير أن هذه المحاولات فشلت؛ ما عرقل توجهات ترامب ووزير الحرب بيت هيجست في تنفيذ عملية عسكرية برية في الأراضي الفنزويلية.

ازداد المشهد تعقيدًا مع صدور الرأي القانوني من مكتب الاستشارات القانونية التابع لوزارة العدل الأمريكية، الذي قضى بأن السماح بشن غارات ضد قوارب يُشتبه في تورطها في تهريب المخدرات إلى أمريكا، لا يجيز للبيت الأبيض شن حرب أو ضربات محدودة داخل فنزويلا نفسها أو في أي أراضٍ، كما أن “أمر التنفيذ” الذي أطلق الحملة العسكرية الأمريكية ضد قوارب يُشتبه في تورطها بتهريب المخدرات في سبتمبر الماضي لم يكن يشمل الأهداف البرية.

أكثر من ذلك، فقد ظهرت إلى السطح مطالبات بسياق قانوني يمنع خضوع الجنود المشاركين في الضربات العسكرية على القوارب المشتبه بتهريبها المخدرات في البحر الكاريبي للملاحقة القانونية مستقبلا.

تداعيات خارج السيطرة

النتائج التي خلصت إليها تحركات إدارة الرئيس ترامب للبحث عن مسوغ قانوني يتيح شن عملية عسكرية داخل فنزويلا، كشفت عن مخاوف لدى الإدارة من مخاطر عسكرية وسياسية وقانونية محتملة قد تهدد الإدارة والرئيس ترامب في حال شن حربًا مفتوحة على فنزويلا دون تفويض من الكونغرس.

وعلى رغم أن الموانع القانونية الدولية مثلت عقبة أمام إدارة ترامب، فإن التقاطعات السياسية والقانونية الداخلية ظلت التحدي الأكبر، خصوصا في ظل وجود معارضة وقيود دستورية كبيرة فسّرت حالة الانقسام وعدم اليقين من آفاق العمليات الحاصلة اليوم لمكافحة المخدرات، من أنها ستتطور إلى حرب واسعة.

ومعلوم أن هناك جناحًا داخل إدارة ترامب، يقوده وزير الخارجية ماركو روبيو، يدفع نحو تغيير النظام في فنزويلا، ومع ذلك فإن الأهداف النهائية للتحرك العسكري لا تزال غير واضحة، وبعضهم يُعد شن عملية عسكرية تسقط النظام في فنزويلا لمنع تجارة المخدرات نحو الولايات المتحدة ليس سوى هراء؛ إذ إن انهيار الدولة والفوضى سيعملان على زيادة تجارة المخدرات بصورة كبيرة.

هذه الاعتبارات اضطرت بعض مسؤولي إدارة ترامب بمن فيهم وزير الحرب إلى إبلاغ الكونغرس بأن الإدارة “لا تخطط حاليًا لتنفيذ ضربات داخل فنزويلا؛ لأنها لا تملك أساسًا قانونيًا يبرر شن هجمات على أي أهداف برية داخل فنزويلا في الوقت الراهن.

الجناح المعارض يرى أن أي عملية عسكرية برية في فنزويلا لن تكون “نزهة عسكرية” في ظل المقاومة الشرسة التي ستوجهها القوات الأمريكية في الأراضي الفنزويلية سواء من القوات المسلحة أم من التشكيلات الشعبية للمقاومة التي تنتشر حاليا في كل أراضي فنزويلا.

ضف إلى ذلك التكاليف البشرية المتوقع أن تتكبدها الولايات المتحدة حال مجازفتها في حرب مباشرة في الأراضي الفنزويلية، وهي التكاليف التي ستكون كارثية على إدارة ترامب خصوصا إن قررت شن الحرب دون تفويض من الكونغرس.

ذلك أن فنزويلا دولة كبيرة تمتد لمساحة تزيد عن 916 ألف كم، والتدخل العسكري المباشر فيها يحتاج إلى موارد عسكرية هائلة وسقف خسائر كبير، خلافًا للحالة التي حصلت في غرينادا أو بنما التي تدخلت فيها الولايات المتحدة سابقًا بعمليات عسكرية سريعة دون خسائر كبيرة.

استعدادات عسكرية

تأخر القرار الأمريكي بشن الحرب على فنزويلا أفسح المجال لكاراكاس لإطلاق استعدادات عسكرية ودفاعية كبيرة، من شأنها أن تشكل حائط صد دفاعي قوي يصعب اختراقه دون عمليات مخابراتية من الداخل أو تدخل عسكري بري وجوي وبحري واسع النطاق.

علاوة على إعلان الرئيس مادورو حالة التعبئة العامة، فقد أعدت فنزويلا خلال المدة الماضية استراتيجيات دفاعية تشمل التصدي العسكري للهجمات البرية والجوية، ثم “المقاومة المطولة”، وأخيرًا تكتيك “حرب العصابات”، بما يجعلها عصية على الغزو البري وغير قابلة للسقوط السريع، وأكثر من ذلك غير قابلة للحكم من قبل قوات أجنبية غازية أو حتى من حكومة محلية مدعومة من الخارج.

يشار في ذلك إلى الأمر الذي أصدره الرئيس مادورو مؤخرًا بتشكيل قيادات دفاع وطني، بالتوازي مع بدء كاراكاس نشر أسلحة تشمل عتادًا روسي الصنع، واستعدادها لعمليات مقاومة واسعة النطاق في كامل الأراضي الفنزويلية على غرار حرب العصابات في حال تعرضها لهجوم جوي أو بري أمريكي.

ومن جانب آخر فقد استعدت السلطات الفنزويلية لاستراتيجيات دفاعية معقدة على شاكلة الدفاع بأسلوب حرب العصابات، عن طريق نشر وحدات عسكرية صغيرة في أكثر من 280 موقعا تُنفّذ أعمال مقاومة مسلحة، فضلا عن استخدام أجهزة المخابرات أنصار الحزب الحاكم المسلحين لخلق حالة من الفوضى في شوارع العاصمة كراكاس وجعل فنزويلا غير قابلة للحكم من القوات الأجنبية، وهي استراتيجيات تجعل من أي عملية عسكرية أمريكية في فنزويلا عملية طويلة ومكلفة للغاية.

وحتى سيناريو الإطاحة بنظام الرئيس مادورو الذي تتبناه الإدارة الأمريكية فهو محاصر بعدد من التحفظات؛ إذ ان رحيل مادورو سيخلق فراغًا في السلطة، سيؤدي بالضرورة إلى حالة عدم استقرار قد تكون أسوأ من الوضع الحالي، وتداعياتها ستنعكس بصورة سلبية أكثر على أمن الولايات المتحدة ودول القارة الجنوبية.

خيارات صعبة

على رغم أن الخيار العسكري مطروح على الطاولة في البيت الأبيض، إلا أن الرئيس ترامب وإدارته يواجهون خيارات صعبة حاليا، بالنظر إلى المخاطر المحتملة لأي مواجهة عسكرية مكلفة وغير مضمونة العواقب؛ ستقود في أقل التقديرات إلى مساءلة قانونية وسياسية داخلية وخارجية، قد تجعل من أي قرار بشن حرب برية من دون تفويض من الكونغرس مغامرة محفوفة بالمخاطر.

ومسألة تعرض الرئيس ترامب وإدارته للمساءلة بموجب القانون الأمريكي ستصبح واردة في حال جازف بشن عمليات عسكرية من دون غطاء من الكونغرس؛ لأن ذلك سيمثل “تجاوزًا للحدود الدستورية والقانونية للسلطة التنفيذية” وفق القوانين الأمريكية النافذة.

ذلك أن الدستور الأمريكي يمنح الكونغرس وحدة سلطة إعلان الحرب، وتجاوز الرئيس لهذه السلطة، يعرضه لخطر المساءلة الدستورية عن طريق رفع دعاوى قضائية أو تحركات في الكونغرس لوقف التمويل أو حتى التوجه نحو خيار عزل الرئيس.

ومسؤولية الرئيس ترامب وقادته السياسيين والعسكريين لن تقتصر على التداعيات الداخلية، بل ستمتد إلى المجال الدولي في اتهامات وإدانات متوقعة بانتهاكات القانون الدولي جراء التهديد باستخدام القوة ضد دولة ذات سيادة أو التدخل العسكري المباشر فيها، بما يمثله ذلك من انتهاك لسيادة فنزويلا وميثاق الأمم المتحدة، الذي يحظر استخدام القوة المهددة للاستقلال السياسي لأي دولة أو المهددة للسلامة الإقليمية.

وأي ضربات محتملة على فنزويلا ستُعدُّ غير قانونية دوليًا؛ لأنها لا تستند إلى مبدأ الدفاع عن النفس، ولا تستند إلى تفويض من مجلس الأمن، في حين أن الهجمات التي شنها الجيش الأمريكي حاليا على قوارب في الكاريبي والمحيط الهادئ -بزعم تهريبها للمخدرات- والاستهداف المباشر للأشخاص على متنها لا يزال يثير جدلا في المحافل الدولية بوصفها عمليات قتل خارج نطاق القانون وتنتهك القانون الدولي.

آفاق “رمح الجنوب”

وفقا للتقاطعات الحاصلة في أزمة الكاريبي الجديدة، فالراجح أن تتعاطى الإدارة الأمريكية مع الملف الفنزويلي ضمن مسارين متوازيين، الأول: الاستمرار في العمليات العسكرية بعيدًا عن حدود فنزويلا، والثاني: الاستمرار في الحشود العسكرية والاستعداد لحرب محتملة بانتظار الحصول على المبررات القانونية لتوسيع الغارات على سفن تهريب المخدرات إلى عمليات عسكرية مباشرة بداخل الأراضي الفنزويلية.

وعلى أن بعضهم يفضل الإشارة إلى إعلان وزير الحرب الأمريكي عن “عملية رمح الجنوب” بأنه إعلان حرب وشيكة على فنزويلا، إلا أن هذا الإعلان المفتقر إلى التفاصيل لا يعني بالضرورة وجود قرار بإطلاق عملية عسكرية في الأراضي الفنزويلية، قدر ما يعني تداعيًا جديدًا في سياق التوترات العسكرية المتصاعدة ضمن تداعيات مختلفة.

يعزز ذلك التقارير التي كشفت –مؤخرًا- عن ترتيبات أمريكية بتوسيع العمليات العسكرية الحالية إلى عملية موسعة، تشمل تشغيل مزدوج للأنظمة الروبوتية والأنظمة ذاتية التشغيل لدعم جهود كشف ومراقبة الاتجار غير المشروع بالمخدرات، ناهيك عن التصريحات الأخيرة للرئيس ترامب، التي قال فيها: إن أيام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو معدودة، وتشكيكه بأن الولايات المتحدة ستخوض حربًا مع فنزويلا.

هذه المعطيات عززت التقديرات التي ترجح أن ” عملية رمح الجنوب” لن تخرج عن سياق الحملة المستمرة منذ سبتمبر الماضي، التي نفذت حتى اليوم 20 غارة، استهدفت قوارب متهمة بتهريب المخدرات، وأدت إلى مقتل 80 شخصًا على الأقل، وإعادة اثنين من الناجين إلى بلديهما.

وفقا لذلك تبدو فرضية شن عملية عسكرية مباشرة على فنزويلا ضمن عملية ” رمح الجنوب” مستبعدة في الوقت الحالي، في حين يُرجح أن تركز التحركات العسكرية الأمريكية لزيادة الضغوط على كاراكاس سعيا لتقويض النظام من الداخل أو لتحفيز الشعب الفنزويلي على التمرد ضد الرئيس مادورو.

وفي كل الأحوال فإن الحشود العسكرية الأمريكية قرب سواحل فنزويلا سواء شنت عمليات محدودة أم اكتفت بمهامها الحالية، فهي بلا شك ستفتح الباب لتداعيات داخلية قد تقود إلى انقلاب يطيح بنظام الرئيس مادورو، الذي صار اليوم هدفا رئيسًا للحملة الأمريكية، التي ترى أن القضاء على تجارة المخدرات في الكاريبي لا يمكن أن تحقق نجاحًا من دون إزاحة الرئيس مادورو عن الحكم.

هذه الخطوة يمكن أن تحظى بتأييد من أركان إدارة ترامب وفريق الصقور في الكونجرس، الذين ينظرون بعين الريبة إلى العلاقات الجديدة بين كاراكاس وموسكو وبيجين، ويسعون إلى استثمار الأزمات لإعادة رسم الخارطة الجيوسياسية في البحر الكاريبي بخطوط تمنح واشنطن نفوذا جديدًا يتيح لها التحكم بمنابع النفط في هذا البلد الغني بالموارد.

______________

*كاتب ومحلل سياسي

كاتب