التهديدات المتصاعدة في القرن الإفريقي تجاه اليمن.. تقييم المخاطر واستراتيجيات التعامل

التهديدات الافريقيةcopy

 

أحمد محمد القانص*

الملخص التنفيذي:

تتناول الورقة التهديدات المتصاعدة من القرن الإفريقي وتأثيرها في الأمن القومي اليمني، ضمن سياقٍ دوليٍ وإقليميٍ متشابكٍ؛ إذ تحوّلت المنطقة المقابلة للسواحل اليمنية إلى بؤرة تموضع عسكري واستخباراتي مكثف تقوده قوى غربية وخليجية وصهيونية تحت شعاراتٍ مثل “حماية الملاحة” و”مكافحة الإرهاب”.

تؤكد الورقة أنّ استقرار اليمن مرتبط عضويا باستقرار دول القرن الإفريقي (إريتريا، إثيوبيا، جيبوتي، الصومال)، وأنّ التداخل الجغرافي والسياسي حوّل البحر الأحمر إلى مسرحٍ للتنافس الدولي، وانعكس ذلك تهديدا للسيادة اليمنية والمصالح الوطنية. واشتملت الورقة على التهديدات الأساسية التي تشمل:

  1. التموضع الأجنبي والقواعد العسكرية: ازدحام القواعد الأجنبية في جيبوتي والسواحل الإفريقية خلق شبكة مراقبة ولوجستية تقلّص حرية المناورة اليمنية في باب المندب، وتمنح خصوم اليمن شرعية قانونية لوجودهم العسكري بذريعة “حماية الملاحة”.
  2. توظيف مكافحة الإرهاب: تُستغل هذه السياسة لتدويل الأمن الإقليمي وفرض وصاية استخباراتية وتقنية على دول القرن الإفريقي، ما يفتح فراغاً أمنياً ساحلياً يُستخدم لتهريب السلاح والبشر نحو السواحل اليمنية، ويقوّض القرار السيادي لصنعاء.
  3. النفوذ الإسرائيلي: يشكّل أخطر تهديدٍ نوعيٍ متصاعد؛ إذ تبني إسرائيل شبكة استخباراتية ممتدة عبر إثيوبيا وإريتريا وصولاً للجزر اليمنية المحتلة؛ لتقييد القدرات البحرية اليمنية،، وتحويل الضفة الإفريقية إلى منصة مراقبة واستهداف.
  4. القرصنة والجرائم البحرية: تمثل مظهراً لاقتصاد ظلٍّ ساحلي متجدد بفعل هشاشة الدول الإفريقية، يرفع كلفة النقل والتأمين، ويغذّي شبكات التهريب التي تهدد السواحل والموانئ اليمنية.

وقد صنفت الورقة تقدير مستوى التهديدات إلى درجات متفاوتة، بحسب أهمية ومسار كل تهديد على حدة، إضافة إلى اقتراح بدائل وسياسات لمواجهة هذا التصاعد في المخاطر المرتبطة بالقرن الإفريقي، من ضمنها:

1-   إطلاق مبادرة يمنية–إفريقية لأمن الملاحة ترفض عسكرة الموانئ وتؤسس لميثاق تعاونٍ جماعي في البحر الأحمر.

2-   توقيع اتفاقياتٍ ثنائية للأمن البحري مع دول القرن الإفريقي لتبادل المعلومات وتنفيذ دوريات مشتركة.

3-   تطوير القدرات البحرية والتشريعية وإنشاء أنظمة إنذارٍ مبكرٍ ومراكز اتصالٍ بحرية.

4-   تعزيز التنمية الساحلية لخلق بدائل اقتصادية تحدّ من التهريب.

5-   انتهاج سياسة متوازنة تجاه القواعد الأجنبية تقوم على التعاون المشروط واحترام السيادة.

6-   تفعيل القوة الناعمة اليمنية عبر التعليم والثقافة والتبادل الاقتصادي لبناء علاقات جيدة بين دول المنطقة.

وأوصت الورقة بإنشاء مركز وطني لشؤون القرن الإفريقي والبحر الأحمر، لمتابعة التهديدات وإصدار التوصيات المستمرة لصانع القرار.

المحور الأوّل: واقع القرن الإفريقي والدول الفاعـلة

1-  الموقع والأهمية الاستراتيجية:

تشمل منطقة القرن الإفريقي دول (إريتريا، إثيوبيا، الصومال، وجيبوتي)، وهي الامتداد الجنوبي الطبيعي للبحر الأحمر، وتتقاطع جغرافيّاً مع اليمن، بمضيق باب المندب، مما يجعلها جزءاً من المجال الحيوي لليمن، وبالتالي يرتبط استقرار اليمن باستقرار هذه الدول، وهي منطقة جيوسياسية مهمة، كانت منذ الحرب الباردة، وما زالت منطقة ساحة تنافس للقوى الكبرى([1])، وازداد الاهتمام بها مع بروز ظاهرة القرصنة في خليج عدن التي بلغت ذروتها بين أعوام (2008–2011)، وعادت الأضواء إليها مجدداً إبان الحرب على اليمن بداية من العام 2015م وصولاً إلى الحرب في غزة 2023(طوفان الأقصى)، وهي منطقة يعتمل فيها التنافس الدولي (الصيني-الأمريكي)، والصراع الاقليمي بين دول القرن الإفريقي منها (الإثيوبي-الإريتري)، والصراعات المحلية التي يجري محاربة بعض أطرافها على أساس وصمها بالإرهاب”. كل هذا يجعل من الحدود الغربية والجنوبية مصدر تهديد لأمن اليمن القومي.

 إريتريا:

استقلت دولة إريتريا عن إثيوبيا في العام 1993، وكان ذلك بداية لمعضلة إثيوبية، إذ باتت دولة حبيسة. وفي الداخل الارتيري يعاني المجتمع من عزلةً سياسية وانقسام إثني حادّ، مع نزيفٍ سكانيٍ بسبب الهجرة واللجوء ([2]). إن النظام السياسي العسكري المنغلق الذي تهيمن عليه “الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة”، ومشاركتها في الحرب الاخيرة الداعمة للنظام واستمرار التشابك الإرتيري بمحيطها ([3]). ومؤخراً (أكتوبر 2025م) وُجّهت لأريتيريا اتهامات بدعم فصائل مسلّحة في الداخل الإثيوبي معارضة في إثيوبيا.([4])

استُغلت الموانئ الأريتيرية من قِبل قوى خارجية، مثل تحويل ميناء “عصب” إلى قاعدة إماراتية (2015–2021)([5])، مما عزّز من عسكرة البحر الأحمر، وفاقم من التحديات الأمنية للجمهورية اليمنية.

إثيوبيا:

إثيوبيا هي الدولة الأكثر كثافةً سكانية وأوسع مساحةً والأعمق تأثيراً في المنطقة، ومع ذلك تعاني من اضطراب داخلي بفعل “الفيدرالية الإثنية” التي تضم أكثر من 80 قومية، وأبرز الفواعل فيها، الحكومة الفيدرالية بزعامة آبي أحمد، وجبهة تحرير تيغراي، وقوات أمهرة الإقليمية “فانو” التي واجهت الجيش عام 2023م ([6])، إضافة إلى ذلك، فإن وضعها دولة حبيسة يدفعها للسعي إلى منفذٍ بحريٍّ دائم([7]).

وما يُهدد اليمن ليس حصولها على منفذ بحري تجاري، بل إمكانية استخدامه عسكرياً، خصوصاً مع انخراط إسرائيل في علاقاتٍ أمنيةٍ مع إثيوبيا ([8])، لتعزيز نفوذها البحري عبر موانئ الصومال.

الصومال:

يشهد الصومال حالةً من الفشل المؤسسي والتعدد الفصائلي منذ سقوط نظام سياد بري (1991). الحكومة الفيدرالية في مقديشو محدودة النفوذ، بينما تسيطر حركة الشباب على الجنوب، وتتمتع كلٌّ من “صوماليلاند” و”بونتلاند” باستقلالٍ فعليٍّ أو شبه ذاتي([9]). هذا التشرذم جعل الصومال ساحة تنافسٍ إقليمي: تركيا وقطر تدعمان الحكومة الفيدرالية، والإمارات تبني نفوذاً في “صوماليلاند” و”بونتلاند”، ما أدى إلى عسكرة الموانئ الصومالية وتحويلها إلى منصّات مراقبةٍ لخليج عدن والساحل اليمني.([10])، كما تُستغل السواحل الصومالية في شبكات تهريب السلاح والمهاجرين، ما يهدد الأمن البحري اليمني مباشرة.

جيبوتي

تتمتع جيبوتي بموقعٍ استراتيجي عند مدخل البحر الأحمر، ونظراً لمحدودية الموارد، يعتمد اقتصادها على عائدات القواعد الأجنبية واستثمارات الشركات الصينية والفرنسية والإماراتية([11])، وعلى رغم استقرارها النسبي، فإن جغرافيتها تحولت إلى بُنية تحتية عسكرية لدول مختلفة، ما عزز من تدويل مسألة أمن البحر الأحمر، ففيها حوالي عشر قواعد ومنشآت عسكرية، وبطبيعة الحال فإن استقرارها النسبي يخدم التواجد الأجنبي، أكثر من الأمن الإقليمي ([12]).

2-   الصراعات البينية داخل القرن الإفريقي وتأثيرها في اليمن

تُشكّل الصراعات بين دول القرن الإفريقي عاملاً حاسماً في تحديد مصادر التهديد تجاه اليمن؛ إذ يتقاطع تأثيرها مع الأمن البحري والاجتماعي والسياسي اليمني، بحكم الارتباط الجغرافي عن طريق البحر الأحمر ومضيق باب المندب، وتبرز في صدارة هذه الصراعات:

الصراع الإثيوبي – الإريتري:

يُعدّ أحد أطول النزاعات في القارة (1998-2018) بسبب الخلاف على بلدة حدودية؛ وعلى رغم إعلان آبي أحمد وأسياس أفورقي المصالحة، فإنها لم تنهِ جذور الأزمة، إذ كانت المصالحة موجهة ضد جبهة تغراي (2020-2022)، ما جعل احتمال تجدد المواجهة قائماً ([13]).

تسعى إثيوبيا بشكل متجدد إلى منفذٍ بحري عبر السواحل الإريترية المقابلة لليمن، لذا لجأت إلى تحالفات بحرية مع دول مثل إسرائيل أو الإمارات. لتحقيق ذلك، سيؤدي الأمر إلى عسكرة مضادة ومباشرة في الضفة المقابلة لباب المندب، وإلى موجات لجوء وهجرة غير شرعية نحو السواحل اليمنية ([14]).

التنافس الإثيوبي – الصومالي – الإريتري:

تعيش المنطقة صراعاً ثلاثيّاً متجدداً حول النفوذ في أرض الصومال، إذ ترى إريتريا في محاولات إثيوبيا التمدد هناك تهديداً لمصالحها القومية، فتدعم قوى صومالية معارضة ([15])، وفي المقابل، أعادت مقديشو فتح ملف أوغادين المتنازع عليه مع أديس أبابا ([16]).

هذا التوتر يُسهم في عسكرة الموانئ الصومالية وتحويلها إلى منصات مراقبة استخباراتية على خليج عدن، كما أن التعاون الإثيوبي–الإسرائيلي المحتمل يضاعف المراقبة على الساحل اليمني، ومع انشغال جمهورية الصومال الفدرالية بأزماتها الداخلية، تتراجع قدرتها على ضبط سواحلها، ما يُتيح ازدهار التهريب والجريمة المنظمة.

التوتر الإريتري – الجيبوتي:

ينحصر الخلاف حول منطقة “رأس دميرة”، وقد تسبب ذلك في مواجهاتٍ عسكريةٍ متكررةٍ (1996م و2008)، ثم انسحبت إريتريا بوساطة قطرية عام 2010، قبل أن يتجدد النزاع عام 2017 على خلفية الأزمة الخليجية (مقاطعة قطر)، ما أفسح المجال لتوسيع النشاط الإسرائيلي في أرخبيل “دهلك” الإريتري ([17]). وفي عام 2018م، أسهمت السعودية وإثيوبيا في توقيع اتفاقٍ لإعادة العلاقات بين البلدين بعد عقدٍ من التوتر ([18]).

يشكل أي تصعيدٍ جديد بين أسمرة وجيبوتي تهديدا مباشرا لمضيق باب المندب، بينما يتيح الوجود الإسرائيلي في الجزر الإريترية والقواعد الأجنبية في جيبوتي قدرةً استخباراتية متقدمة على مراقبة الأنشطة العسكرية والاقتصادية اليمنية.

الصراع السوداني وانعكاساته على الإقليم واليمن:

على رغم أن السودان لا يُعد جزءاً من القرن الإفريقي بالمعنى الضيق، فإن الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع (منذ أبريل 2023) تُلقي بظلالها على الإقليم بأكمله، مهددة بانهيار “منظومة الأمن الجماعي” في البحر الأحمر ([19]).
تمدّد الصراع نحو الحدود الإثيوبية والإريترية يفتح الباب أمام موجات نزوح جديدة قد تصل السواحل اليمنية، في حين تمثل شبكات المرتزقة والتهريب على سواحل السودان تهديداً متكرراً للساحل الغربي اليمني.

الفواعل الدولية:

تُدير الولايات المتحدة من قاعدتها في جيبوتي (كامب ليمونير) شبكة عمليات بحرية لـ”مكافحة الإرهاب” وحماية الملاحة، في حين رسّخت الصين وجودها بإنشاء قاعدة عسكرية في جيبوتي عام 2017؛ لحماية مصالحها التجارية وإمدادات الطاقة إلى بكين ضمن “مبادرة الحزام والطريق” ([20])، كما تمتلك فرنسا واليابان وبعض الدول الأوروبية قواعد محدودة، فيما تسعى روسيا إلى تموضع سياسي واقتصادي في السودان وبعض الموانئ الإفريقية ([21])، هذه المزاحمة في الوجود الدولي، حوّلت البحر الأحمر إلى ساحة تنافس مفتوح، ومن المحتمل أن تحدّ من حرية القرار اليمني في ممراته السيادية.

الفواعل الإقليمية:

تربط الإمارات والسعودية نفوذهما البحري في القرن الإفريقي بأمن الملاحة وبالحدّ من “الحضور الإيراني” في البحر الأحمر ضمن المنافسة الجيوسياسية، غير أن هذا التوجه السعودي الإماراتي، يأتي في إطار الاستراتيجية الغربية الأوسع في المنطقة ([22])، أما تركيا التي تحركها مشاريع” العثمانية الجديدة” فتعزّز وجودها في الصومال عبر مشاريع البنية التحتية والموانئ بما يخدم مصالحها، وفي ظل التنافس الإقليمي في نظام عالمي يشهد تحولات قطبية.

وتبرز إسرائيل، بوصفها قوة إقليمية تتبنى مشروعا للهيمنة والنفوذ تمرره عبر اتفاقيات إبراهام، وهي في آن لاعب أمني نشط يسعى لبناء تحالفات استخباراتية مع إثيوبيا وإريتريا؛ للسيطرة على البحر الأحمر، ما يجعلها في تنافس وصدام قائم ومحتمل مع القوات البحرية اليمنية، ومهدداً لسيادة اليمن في البحر الأحمر ([23]).

المحور الثاني: التهديدات المتصاعدة من القرن الإفريقي

تُعدّ منطقة القرن الإفريقي اليوم واحدةً من أكثر المساحات الجيوبوليتيكية تأثيراً في الأمن القومي اليمني، ليس فقط لقربها الجغرافي واتصالها المباشر بمضيق باب المندب، بل لأن التحوّلات داخلها صارت تُدار ضمن منظومةٍ دوليةٍ معقّدةٍ تتجاوز حدود دولها الأربع (إريتريا، إثيوبيا، جيبوتي، الصومال)، لتتحوّل إلى عقدةٍ مركزية في إعادة هندسة الأمن البحري في البحر الأحمر.

وعلى مدى العقود الماضية، تحوّل القرن الإفريقي إلى مختبرٍ مفتوحٍ للقواعد العسكرية الأجنبية وشركات الأمن الخاصة وشبكات المراقبة والاستخبارات البحرية، تحت شعاراتٍ متعدّدة، مثل “حماية الملاحة” و”مكافحة الإرهاب” و”الاستثمار في البنية التحتية”، وبهذا المعنى، لم تعد التهديدات الصادرة من القرن الإفريقي انعكاساً لأزماته المحلية، بل تحوّلت إلى بنية أمنية دولية ضاغطة على اليمن أيضا.

أ) القواعد العسكرية والتموضع الأجنبي:

وجود القواعد العسكرية الأجنبية في الضفة الإفريقية المقابلة لليمن لم يعد مجرد “تموضع لوجستي”، بل صار أداة لإعادة توزيع القوة والسيطرة في البحر الأحمر.
يمكن فهم هذا التموضع عن طريق ثلاث دوائر مترابطة:

  1. الدائرة البنيوية (الممر – المنفذ – العقدة) :

تمثّل جيبوتي اليوم مركز الثقل القاعدي الأجنبي في إفريقيا، حيث تتكدّس فيها القواعد الأمريكية والصينية والفرنسية واليابانية والإيطالية، مما يحوّل الميناء والمجال الجوي إلى عقدة تحكّم في الحركة اللوجستية والاستخباراتية ([24]).

  1. الدائرة التشغيلية (المراقبة–الإسناد–الضربات):

لم تعد القواعد العسكرية مجرد مخزن للسلاح بل منصة عمليات متكاملة تشمل الأقمار الصناعية التكتيكية والطائرات المسيّرة وفرق الإسناد البحري ([25])، هذا التداخل يخلق انكشافا جزئياً دائمًا للمجال البحري اليمني، ويحدّ من فاعلية أساليب التمويه والمناورة التقليدية في العمليات البحرية.

  1. الدائرة السياسية–القانونية (التفويض والسردية):

تُغلّف القواعد بخطاب “حماية الملاحة” لتكتسب شرعيةً دولية، ما يمكّن القوى الأجنبية من إعادة تعريف المخاطر على طريقتها الخاصة، بحيث تُصنّف التحركات اليمنية “تهديداً” للملاحة وتُبرَّر على أساسها إجراءات عدوانية مضادة ([26]) ، وقد شكّلت تجربة قاعدة “عصب” (2015–2021) نموذجاً دالاً على هذا التحوّل؛ إذ استُخدمت القاعدة من قبل الإمارات لوجستياً في العدوان على اليمن، قبل أن يُعاد توزيع الشبكات البديلة في الصومال وبعض الجزر اليمنية ([27]).

ب) مكافحة الإرهاب غطاء للتمدد الخارجي:

تحوّل خطاب “مكافحة الإرهاب” من سياسة أمنية إلى أداةٍ لإعادة هندسة الأمن المحلي والإقليمي، عن طريق ثلاث دوائر:

1-   تحويل البوصلة المؤسسية:

تُدفع الدول الهشّة مثل الصومال إلى الانشغال بمطاردة الجماعات المسلّحة داخلياً، على حساب ضبط السواحل ومكافحة التهريب، مما يخلق فراغاً بحرياً يُستغل في عمليات التهريب باتجاه اليمن ([28]).

2-   التعاقد الأمني غير المتكافئ:

الشراكات الأمنية مع الغرب تُنتج اعتماداً تقنياً واستخباراتياً يُمكّن الشركاء الأجانب من توجيه جدول الأعمال الأمني محلياً بما يخدم استراتيجيات بحرية أوسع (الدوريات المشتركة، المناورات قرب المياه اليمنية)، فيتحوّل “مسرح مكافحة الإرهاب” إلى ساحة ضغط على القدرات البحرية اليمنية ([29]).

3-   تدوير الشبكات بدلاً من تفكيكها:

بدلاً من تفكيك البنى المسلحة، تُدار المواجهة بأسلوب انتقائي، فيُحتفظ بشبكاتٍ نافعةٍ لوظائف إقليمية، ما يحوّلها إلى أدواتٍ جيوسياسية قادرةٍ على التأثير في حركة السلاح والبشر عبر خليج عدن ([30]) .

ج) النفوذ الإسرائيلي:

يُعدّ النفوذ الصهيوني في القرن الإفريقي والبحر الأحمر أحد أخطر المسارات الاستراتيجية المهدّدة لليمن؛ إذ يرتكز على مشروعٍ طويل الأمد لتأمين حرية الملاحة الإسرائيلية وتحييد القوة اليمنية المتصاعدة في البحر الأحمر.

منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973، أقامت “إسرائيل” شراكاتٍ أمنية مع إثيوبيا، وإريتريا منذ استقلالها، واستثمرت جزر “دهلك” مواقع للرصد البشري والإلكتروني ([31])، وقد ضاعفت عملية طوفان الأقصى (2023–2025) من هذا التوجّه؛ إذ سعت “إسرائيل” إلى توسيع وجودها جنوب البحر الأحمر تحسّباً لتنامي القدرات اليمنية البحرية، الأمر الذي حوّل الضفة الإفريقية المقابلة لباب المندب إلى منصة استهدافٍ استخباراتيٍ دائم ([32]).

د) القرصنة والجرائم البحرية:

القرصنة ليست حادثاً عرضياً، بل نتاجٌ اقتصادي وأمني متجدد يتغذّى على هشاشة دول القرن الإفريقي، فالفقر والبطالة وانهيار الدولة في الصومال، كلها عوامل أوجدت اقتصاد ظلٍّ يقوم على الخطف والتهريب وتجارة السلاح والبشر، ما خلق مساراتٍ خطيرةً نحو السواحل اليمنية وميناء عدن ([33]).

المحور الثالث: تقدير التهديدات المتصاعدة في القرن الإفريقي على الأمن القومي اليمني

مما سبق يتبيّن أن تكدّس القواعد الأجنبية في جيبوتي والسواحل الإفريقية وتموضع الإمارات في موانئ “عصب” و”بربرة” و”بوصاصو” خلق بنية لوجستية واستخباراتية تمكّن خصوم اليمن من المراقبة الدقيقة وتقليص زمن الاستجابة العملياتية في باب المندب.

إذ يحدّ من حرية المناورة البحرية والجوية، ويُضعف الاستقلال الدفاعي اليمني، كما يمنح الخصوم غطاءً قانونياً بحجة سردية “حماية الملاحة”، ما يجعل المواجهة تتطلّب استراتيجية تقييد وصول تدريجية ونُظماً للإنذار البحري والإلكتروني، مع إدارة قانونية مضادّة تحدّ من شرعية هذا الوجود.

1-تقدير تهديد توظيف مكافحة الإرهاب:

تحوّل شعار “مكافحة الإرهاب” في القرن الإفريقي إلى أداةٍ لتدويل الأمن وفرض وصايةٍ استخباراتيةٍ وتقنيةٍ غير متكافئة، تُتيح للشركاء الخارجيين التحكم في الأجندة الأمنية الإقليمية على حساب المصالح اليمنية؛ هذا المسار يُنتج فراغاً ساحلياً في دول هشّة، كالصومال يغذّي شبكات التهريب نحو اليمن، ويؤدي إلى تضييق القرار السيادي البحري وترسيخ وجودٍ أمنيٍّ أجنبي بذريعة “المهام المشتركة”.

2- تقدير تهديد النفوذ الإسرائيلي:

يتّضح أن النفوذ الإسرائيلي في الضفة الإفريقية يشكّل مشروعاً استخباراتياً طويل الأمد، يستهدف تحييد القدرات اليمنية في البحر الأحمر، عن طريق بناء “اقتصاد معلومات بحرية” وشبكات رصد واتصال تمتد من إثيوبيا وإريتريا إلى الجزر اليمنية المحتلة.

يتّسم التهديد بأنه عالٍ وتصاعدي في المدى المتوسط، ويعتمد على اختراقاتٍ غير مباشرة عن طريق وكلاء إقليميين، ويكمن خطره في الاستباق الاستخباراتي الذي يقيّد حرية المناورة البحرية والصاروخية، وفي محاولات تفكيك البيئة السيادية اليمنية وتكامل نشاطه مع التموضع الغربي والخليجي، ويُعدّ تهديداً نوعياً ومعرفياً يتطلّب إجراءات مضادّة تشمل الرصد السلبي والخداع العملياتي والردع القانوني والإعلامي ضد “صهينة البحر الأحمر”.

3-تقدير تهديد القرصنة والجرائم البحرية:

تُظهر المعطيات أن القرصنة والجرائم البحرية تمثل نتاجاً لاقتصاد ظلٍّ ساحلي يتجدد مع الأزمات في القرن الإفريقي، ما يرفع كلفة النقل والتأمين، ويُضعف سمعة الموانئ، ويخلق موارد لوجستية لشبكات تهريب السلاح والبشر والوقود نحو اليمن.

المحور الرابع: البدائل والتوصيات الاستراتيجية

ينطلق هذا المحور من المبدأ العام القائل بضرورة تحويل مفهوم الأمن البحري من نطاقٍ تنافسي إلى منظومة تعاون جماعي إقليمي (الأمن الجماعي)، بحيث يُعاد تعريف أمن البحر الأحمر وباب المندب بوصفه مشروعاً مشتركاً لصون السيادة الوطنية وتنمية السواحل، لا ذريعةً لعسكرة الممرات الدولية أو فرض الوصاية الأجنبية.

1- سياسات مقترحة في ظل الوضع الطبيعي:

أ- إطلاق مبادرة يمنية–إفريقية لأمن الملاحة تضم دول الإقليم الأساسية (اليمن، جيبوتي، الصومال، إريتريا، إثيوبيا)، مع انفتاحها على الشركاء العرب (مصر، السعودية). الغاية هي صياغة ميثاقٍ إقليمي لحماية الملاحة يرفض عسكرة الموانئ، ويُنشئ آلية اجتماعات أمنية دورية لتبادل المعلومات والتنسيق البحري.

ب- اتفاقيات ثنائية وإقليمية للأمن البحري:

توقيع مذكرات تفاهمٍ بحرية مع دول القرن الإفريقي لتسيير دورياتٍ مشتركة وتبادلٍ استباقي للمعلومات حول أنشطة القرصنة وتهريب السلاح والبشر، وتُرفق هذه الاتفاقيات ببرامج تدريب وتبادل ضباط بحرية ومراكز اتصال مباشرة، لتقليص زمن الاستجابة عند وقوع حوادث بحرية.

ج- بناء القدرات البحرية والمدنية للإدارة الساحلية:

تطوير قوة بحرية وطنية وتحديث التشريعات البحرية والجمارك والموانئ، كما تُطلق برامج تدريب مشتركة بالتعاون مع دول مانحةٍ للمساعدات الفنية (غير المشروطة سياسياً)؛ لتأهيل الكوادر اليمنية في مجالات المراقبة الساحلية والإنذار البحري.

د- آليات اقتصادية وتنموية للسواحل:

إقامة مشاريع ساحلية مشتركة (موانئ خدمية، مناطق مصايد، صناعات خفيفة)، بما يخلق بدائل اقتصادية تقلّل من انخراط المجتمعات الساحلية في شبكات التهريب،
وتُربط هذه المشاريع بآليات تمويلٍ عربية–إفريقية وبمبادرات تنموية بحرية لتأمين استدامة الموارد.

هـ- سياسة متوازنة إزاء القواعد الأجنبية:

اتباع موقف دبلوماسي متزن يقوم على مبدأ “التعاون الأمني المتعدد الأطراف المشروط”؛ بحيث يُسمح بالتعاون التقني فقط في إطار احترام سيادة الدول الساحلية، ورفض أي استخدام عدائي أو أحادي للقواعد العسكرية الأجنبية في البحر الأحمر.

د- الاستثمار في القوة الناعمة:

تعزيز الروابط التاريخية والثقافية والدينية مع شعوب القرن الإفريقي عن طريق المنح الدراسية، والتبادل الثقافي والإعلامي، وتنشيط التجارة البينية، ويُستفاد من هذه الأدوات لبناء شبكات تأثير ناعم تُرسّخ صورة اليمن بوصفه جارا متعاونا وشريك سلام وتنمية.

توصيات ختامية

يوصي الباحث باعتماد سياسة تمزج بين المرونة الدبلوماسية وتفعيل أدوات القوة الناعمة، في مواجهة التهديدات المحدقة بالأمن القومي اليمني، مع العمل على:

–       مواصلة تطوير القدرات الردعية للقوات البحرية اليمنية.

–       توظيف الدور اليمني العسكري في مساندة غزة، عنصرا فاعلا في الأمن الإقليمي.

–       رفض أي محاولات للمساس بالوحدة اليمنية، والتحذير من أي اتفاقات مع أطراف محلية، على حساب سيادة اليمن ومصالحه العليا.

–       إنشاء مركزٍ وطني يمني متخصص في شؤون القرن الإفريقي والبحر الأحمر، يتولّى جمع المعلومات وتحليل الاتجاهات وتقديم توصيات استراتيجية مستمرة لصانع القرار.

ختاما، فإن استعادة التوازن الاستراتيجي في الإقليم تتطلّب من اليمن الانتقال إلى موقع المبادرة القيادية، عن طريق بناء تحالفات ذكية قائمة على المصالح الاقتصادية المشتركة، وترسيخ مبدأ الأمن الجماعي، وإطلاق مشروعٍ إقليميٍّ، للتعاون الأمني والاقتصادي والتنمية الساحلية المشتركة، بما يخدم مصالح اليمن ودول القرن الأفريقي، ويحد من التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية، ويجعل من البحر الأحمر مسرحًا للتعاونٍ والاستقرار بين الدول المشاطئة على ضفتيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*صحفي وباحث سياسي

المصادر:

[1] المحبشي، زيد يحيى وآخرون. “اليمن ودول القرن الأفريقي (1990–2002)”. صنعاء: مركز البحوث والمعلومات – وكالة الأنباء اليمنية (سبأ)، 2003م.

[2] أبو نهار، صالح عبد ربه،” احتلال جزيرة حنيش وأبعاد العدوان الإريتيري”، (مرجع غير مؤرخ.).

[3] العواضي، عبدالسلام قاسم، “الجالية اليمانية في إثيوبيا الحبشة”، صحيفة النداء اليمنية،20 نوفمبر 2024م.

[4] الشرق، “تلويح بالحرب واتهامات متبادلة.. إثيوبيا وإريتريا تضعان القرن الإفريقي أمام اختبار جديد” (28 أكتوبر 2025م).

[5] جمال الدين، نور طارق، “تداعيات الصراعات الحدودية في القرن الإفريقي وتأثيرها على حالة الاستقرار،  “المركز الديمقراطي العربي. ، 8 يونيو 2023م.

[6] بابعا، مراد. القرن الإفريقي.. مهد البشرية وملتقى الجيوش وبلاد المجاعات والحروب الأهلية. موقع الجزيرة، 7 سبتمبر 2025م.

[7] المحبشي، زيد يحيى وآخرون. (مرجع سابق).

[8] عبد القادر محمد علي”هل تنجح إسرائيل في جر إثيوبيا لمواجهة مع الحوثيين؟ “، الجزيرة نت، (1 يونيو 2025م)

[9] جمال الدين، نور طارق. (مرجع سابق).

[10] السيد، عباس عبد الله. الصراع الدولي والإقليمي في البحر الأحمر وباب المندب بعد ظهور الكيان الصهيوني (3-3). صحيفة الثورة اليمنية (الثورة نت)، 29 نوفمبر 2023م. . (مرجع سابق).

[11] بابعا، مراد. (مرجع سابق).

[12]المحبشي، زيد يحيى وآخرون.( مرجع سابق).

[13] العواضي، عبد السلام، (مرجع سابق).

[14] محمد، هاشم علي حامد، “الدبلوماسية اليمنية”، إندبندنت عربية، 22 أكتوبر 2025م.

[15] عسكر، أحمد، (مرجع سابق).

[16] المحبشي، زيد وآخرون، )مرجع سابق).

[17] موقع الجزيرة. “قاعدة دهلك بإريتريا مركز إسرائيلي لمراقبة البحر الأحمر”.24 يوليو 2024م.

[18] باعبا، مراد، (مرجع سابق)

[19] عسكر، أحمد، (مرجع سابق)

[20] السيد، عباس عبد الله، (مرجع سابق)

[21] بابعا، مراد، (مرجع سابق).

[22] السيد، عباس عبد الله، (مرجع سابق).

[23] عسكر، أحمد، (مرجع سابق).

[24] السيد، عباس عبد الله، “الصراع الدولي والإقليمي في البحر الأحمر وباب المندب بعد ظهور الكيان الصهيوني”، الثورة نت، 28 نوفمبر 2023م.

[25] المحبشي، زيد يحيى، “اليمن وإريتريا.. علاقات ملغومة”، وكالة الأنباء اليمنية – سبأ، مركز البحوث والمعلومات، 24 يونيو 2020م.

[26] المحبشي، وآخرون. (مرجع سابق).

[27] المصدر نفسه.

[28] أحمد عبده سعيد، “التحولات الأمنية في القرن الإفريقي”، مجلة دراسات البحر الأحمر، 2021م.

[29] (المرجع السابق).

[30] (مركز الدراسات الإفريقية، “القرن الإفريقي بين مكافحة الإرهاب وتدويل الأمن”، 2022م.

[31] عبد الله السيد، “النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا: قراءة في التحولات الأمنية”، 2021م.

[32] (المصدر السابق).

[33] عمر عبد الله حامد، “القرصنة في خليج عدن: الجذور والتداعيات”، معهد القرن الإفريقي للدراسات، 2020م.

كاتب