الصهاينة العرب.. الخيانة من الداخل وتبييض وجه الاحتلال الصهيوني

فواز النقاش

فواز أحمد النقاش*

 

في قلب الصراع العربي الصهيوني، الذي امتد أكثر من قرن، لم تقتصر المواجهة على الجبهات العسكرية والسياسية التقليدية، بل نشأت جبهة داخلية، أكثر تعقيدًا وخطورة، تتمثل في تيار يُصطلح على تسميته بـ “الصهاينة العرب”، وهذا المصطلح لا يشير إلى تنظيم رسمي، بل يصف مجموعة من السياسيين والمثقفين والإعلاميين العرب الذين، تماهت مواقفهم وخطاباتهم مع الرواية الصهيونية، وعملوا -بوعي أو بغير وعي- على خدمة أهدافها على حساب الحقوق الفلسطينية والإجماع العربي.

إنهم يمثلون طابورًا خامسًا فكريًا وسياسيًا، مهمته الأساسية تفكيك الرفض العربي للاحتلال من الداخل، وتبرير سياسات التطبيع التي تخدم العدو الإسرائيلي بالدرجة الأولى، مع العلم أن  جذورها بدأت من التعاون الحذر إلى العمالة الصريحة، ولم تكن هذه الظاهرة في بدايات المشروع الصهيوني، وقبل أن تتضح أبعاده الاستعمارية بشكل كامل وجدت بعض الأصوات العربية التي رأت في الحركة الصهيونية حليفًا محتملًا ضد الحكم العثماني أو شريكًا في التحديث، لكن سرعان ما تبدد هذا الوهم مع تزايد الهجرة اليهودية والاستيلاء على الأراضي، وتحول الموقف العربي العام إلى الرفض القاطع.

إلا أن فكرة “التعاون الوظيفي” لم تمت، إذ يرى محللون أن القوى الاستعمارية التي رعت قيام إسرائيل، حرصت على تنصيب أنظمة عربية “وظيفية” تكون مهمتها غير المعلنة حماية أمن العدو الإسرائيلي وضمان استقرار المصالح الغربية، وظهرت تجليات هذه الخيانة في محطات مفصلية، مثل حرب 1948، إذ يُتهم بعض القادة العرب آنذاك بالتواطؤ الذي أدى إلى الهزيمة ومنع الجيوش من تحقيق نصر حاسم، وتعد هذه الحرب البذرة الأولى لـ “الصهيونية العربية” أداة سياسية تخدم مصالح خارجية تحت غطاء “الواقعية” و”الحكمة”.

واعتمدت “الصهيونية العربية” على بنية خطاب متكاملة تهدف إلى تسميم الوعي العربي وتبرير الخيانة، معتمدة من وجهة نظري على عدة ركائز أساسية، أهمها:

شيطنة المقاومة الفلسطينية ولومها:

هذه هي الركيزة الأبرز والأكثر خبثًا؛ إذ  يتبنى “الصهاينة العرب” الرواية الصهيونية والغربية بالكامل، فيصفون حركات المقاومة الفلسطينية، مثل: حماس والجهاد الإسلامي، بـ”الإرهاب” و”التطرف”، في كل عدوان إسرائيلي على غزة أو الضفة، وترتفع أصواتهم ليس لإدانة المحتل، بل لتحميل المقاومة مسؤولية الدمار والقتل، وتتناول عبارات مثل “حماس لا تمثل الفلسطينيين” أو “مغامرات المقاومة تجلب الويلات للشعب” وتصير  لازمة مكررة في مقالاتهم وتغريداتهم، متجاهلين حقيقة أن الاحتلال هو أصل العنف، وأن المقاومة هي رد فعل طبيعي ومشروع، وبهذه الطريقة، يبرئون ساحة الجلاد ويلقون باللوم على الضحية التي تجرأت على الدفاع عن نفسها.

تزوير التاريخ وتشويه الوعي:

يعمل هذا التيار على إعادة كتابة التاريخ بما يخدم أجندة التطبيع، ويجري تصوير الصراع على أنه مجرد “نزاع حدودي” بين طرفين متكافئين، وليس قضية احتلال استيطاني إحلالي، ويجري التقليل من أهمية القدس، والتشكيك في حق العودة، والترويج لفكرة أن الفلسطينيين “باعوا أرضهم”، وهي أكذوبة تاريخية فندتها آلاف الوثائق؛ بهدف نزع القداسة عن القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مشكلة صغيرة يمكن حلها عبر تنازلات من الطرف الأضعف.

الترويج للتطبيع كمصلحة وطنية:

يجري تسويق اتفاقات التطبيع على أنها “قرارات سيادية” تحقق “مصالح وطنية” للدول المطبعة، وأنها ستجلب السلام والازدهار الاقتصادي والتكنولوجي، هذا الخطاب يتجاهل عمدًا أن هذه الاتفاقيات تُعقد على حساب الحقوق الفلسطينية الثابتة، وتمنح إسرائيل شرعية مجانية لمواصلة احتلالها وتوسعها الاستيطاني. إنها خيانة مغلفة بمصطلحات “البراغماتية” و”المصلحة القومية”، بينما المصلحة الحقيقية هي لإسرائيل التي تنجح في تفكيك الموقف العربي الموحد دون أن تقدم أي تنازل جوهري.

محاربة الهوية العربية والإسلامية:

يذهب بعض “الصهاينة العرب” إلى أبعد من ذلك؛ فهم يهاجمون الثوابت الدينية والثقافية التي تجعل من فلسطين قضية مركزية للأمة، ويشككون في مكانة المسجد الأقصى، ويسخرون من فكرة “الرباط” والدفاع عن المقدسات، ويدعون إلى “دين إبراهيمي جديد”، يهدف إلى طمس الفوارق العقائدية ودمج إسرائيل في نسيج المنطقة كيانًا طبيعيًا، محاولين سلخ الأمة عن هويتها التي تشكل خط الدفاع الأخير ضد المشروع الصهيوني.

العمالة للصهيونية العالمية:

لا يمكن فهم ظاهرة “الصهاينة العرب” بمعزل عن الصهيونية العالمية، وإنهم ليسوا مجرد أفراد يحملون آراء شاذة، بل هم أدوات وظيفية ضمن استراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد، وقد أدرك العدو الإسرائيلي منذ عقود أن القوة العسكرية وحدها لا تكفي لضمان بقائها، وأن الاختراق الحقيقي يكمن في “كيّ الوعي العربي” وتطويعه، وقد وجدت في “الصهاينة العرب” ضالتها، فهم يقدمون للرواية الصهيونية ما لا تستطيع تقديمه لنفسها: صوت عربي يبرر الاحتلال، فعندما يتحدث إعلامي من أبو  ظبي أو  الرياض أو دبي أو المنامة أو  الدوحة بنفس منطق المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، يكون الأثر في  الرأي العام العربي أشد فتكًا من أي دعاية صهيونية مباشرة؛ إذ يمنحون الاحتلال غطاءً أخلاقيًا من داخل البيت العربي، ويحولون الخيانة إلى وجهة نظر تستحق النقاش.

وختامًا، يمثل “الصهاينة العرب” أخطر أشكال الاختراق الذي واجهته الأمة العربية في تاريخها الحديث؛ لأنهم ليسوا مجرد مطبعين، بل هم مهندسو الهزيمة النفسية والفكرية، وعملاء يعملون بجد لتصفية أعدل قضية عرفها التاريخ المعاصر، مقابل مصالح شخصية ضيقة أو تنفيذًا لأجندات تخدم أعداء الأمة، فخيانتهم ليست مجرد موقف سياسي، بل هي طعنة في قلب التاريخ والجغرافيا والهوية.

___________

*باحث دكتوراه في العلوم السياسية

كاتب