فواز احمد النقاش*
يمثل التوتر المستمر بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية فنزويلا البوليفارية أحد أبرز ملفات الصراع الجيوسياسي في نصف الكرة الغربي، ولا يمكن اختزال هذا الصراع في كونه مجرد خلاف بين دولتين، بل هو تجسيد لـ “عقيدة مونرو” الأمريكية في مواجهة “الثورة البوليفارية” الفنزويلية، مدعومًا بتشابك المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للقوى الكبرى.
تهدف هذه الورقة إلى تحليل الأبعاد الجيوسياسية، والاقتصادية، والشرعية الدولية للتهديدات الأمريكية على فنزويلا، وتقديم سيناريوهات مستقبلية مبنية على تحليل القوى الدافعة للصراع.
أولاً: الجذور الأيديولوجية والجيوسياسية للصراع
يعود الصراع إلى تولي هوغو تشافيز السلطة عام 1999، وتبنيه لـ “الاشتراكية للقرن الحادي والعشرين” و”الثورة البوليفارية”، التي مثلت تحديًا مباشراً للهيمنة الأمريكية في أمريكا اللاتينية، وهذا التحدي الأيديولوجي تحول إلى صراع جيوسياسي معقد في ظل سعي فنزويلا لتعزيز علاقاتها مع قوى مناهضة للهيمنة الأمريكية.
- عقيدة مونرو في مواجهة التعددية القطبية:
تعتبر واشنطن فنزويلا، تحت قيادة نيكولاس مادورو، تهديدًا مباشرًا لأمنها الإقليمي، ليس فقط بسبب طبيعة النظام، بل لكونها نقطة ارتكاز للنفوذ الخارجي المعادي، ويمثل هذا الصراع محاولة أمريكية لإعادة تأكيد مبدأ “الفناء الخلفي” (Backyard Doctrine) الذي تتبناه الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، والذي يقضي بمنع أي نفوذ لقوى عظمى منافسة في المنطقة.
- التهديد الجيوسياسي:
تحولت فنزويلا إلى ساحة للتنافس بين القوى العظمى، ويمثل الدعم المكثف الذي تتلقاه كاراكاس من روسيا والصين وإيران تحديًا لمبدأ “الفناء الخلفي” الأمريكي، وقد أكدت روسيا دعمها لسيادة فنزويلا، مع وجود تقارير عن تعاون عسكري مكثف، حيث أشار مسؤولون روس إلى أن تحركات الولايات المتحدة قرب فنزويلا تثير التوتر، مؤكدين التواصل المستمر بين موسكو وكاراكاس. كما كشفت وثائق مسربة عن طلب فنزويلي لمساعدة روسية وصينية ضد الولايات المتحدة.
- التهديد الأمني غير التقليدي
تصعد واشنطن من خطابها باتهام فنزويلا بأنها “دولة إجرامية” تسهل أنشطة تهريب المخدرات مثل: عصابة “ترين دي أراغوا” وتوفر ملاذاً آمناً لجماعات مسلحة وشبكات إيرانية، مما يبرر التدخل تحت ذريعة “مكافحة الجريمة العابرة للحدود”.
ويهدف هذا الخطاب إلى نزع الشرعية عن نظام مادورو دوليًا وتوفير غطاء قانوني للعمليات العسكرية أو الأمنية في المنطقة، وقد تزامن هذا الخطاب مع تحركات عسكرية أمريكية قرب المياه الإقليمية الفنزويلية وإعادة تأهيل قواعد عسكرية في الكاريبي، مما يشير إلى استعداد استراتيجي للتصعيد.
- الطاقة النفطية والسيطرة على الموارد:
تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، مما يجعلها هدفًا استراتيجياً لا يمكن تجاهله؛ حيث ترى كاراكاس أن الهدف الحقيقي للتهديدات الأمريكية هو السيطرة على هذه الثروة، وهو ما أكده الرئيس مادورو مراراً.
ومن الواضح إن العقوبات الأمريكية، التي تستهدف بشكل أساسي قطاع النفط، هي أداة ضغط قصوى لإحداث تغيير في النظام، مما يربط البعد الجيوسياسي بالبعد الاقتصادي بشكل وثيق، لإن السيطرة على نفط فنزويلا لا تعني فقط تأمين إمدادات الطاقة، بل تعني أيضاً إضعاف النفوذ الروسي والصيني الذي يتزايد في هذا القطاع.
ثانياً: الأبعاد الاقتصادية:
تُعد العقوبات الاقتصادية الأمريكية، التي بدأت تتصاعد منذ عام 2015 واستهدفت شركة النفط الوطنية (PDVSA) وقطاعات الذهب والتعدين، بمثابة “حرب اقتصادية” تهدف إلى خنق النظام، وأدت هذه العقوبات إلى تدهور اقتصادي غير مسبوق، لكنها لم تحقق هدفها النهائي المتمثل في تغيير النظام.
- تأثير العقوبات على الاقتصاد الفنزويلي:
- قطاع النفط: انخفاض حاد في الإنتاج والصادرات، مما أدى إلى تدهور الإيرادات الحكومية التي تعتمد عليها الدولة بنسبة 90%، واستخدام العقوبات الأمريكية كرافعة للضغط السياسي وإجبار مادورو على التفاوض أو التنحي.
- الوضع الإنساني: تفاقم الأزمة الإنسانية، حيث يحتاج ما يقدر بـ 7.9 مليون فنزويلي إلى مساعدات إنسانية في عام 2025، وتبرر الولايات المتحدة العقوبات بأنها تستهدف النظام وليس الشعب، مع تقديم مساعدات إنسانية محدودة.
- النمو الاقتصادي: رغم العقوبات، شهدت فنزويلا نمواً اقتصادياً ملحوظاً في عام 2024 (6.2%)، مدفوعاً بـ “دولرة” الاقتصاد والتحايل على العقوبات، مما يشير إلى قدرة النظام على التكيف مع التهديد الأمريكي، بفرض تعريفات جمركية جديدة وعقوبات ثانوية لعرقلة هذا النمو.
- التكيف الاقتصادي والتحايل على العقوبات:
أظهرت فنزويلا قدرة على التكيف مع العقوبات من خلال آليات عدة:
- سمح النظام بتداول الدولار الأمريكي بشكل واسع وبصورة غير رسمية، مما خفف من حدة التضخم المفرط وأعاد قدرًا من الاستقرار للأسواق.
- اعتمدت الحكومة على قطاع الذهب والمعادن الأخرى لتمويل عملياتها، مما أدى إلى نشاط تعديني غير قانوني واسع النطاق.
- اعتمدت فنزويلا على حلفائها (روسيا، الصين، إيران) في بيع نفطها بطرق غير تقليدية والتعامل بالعملات المحلية، مما قلل من فعالية العقوبات الأمريكية.
ثالثاً: الشرعية الدولية والتهديدات القانونية:
تثير الإجراءات الأمريكية ضد فنزويلا جدلاً واسعاً حول شرعيتها في القانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بمبدأ السيادة وعدم التدخل.
- مبدأ السيادة وعدم التدخل:
ترى فنزويلا وحلفاؤها أن العقوبات الأمريكية والتهديدات العسكرية تمثل انتهاكاً صارخاً لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، المنصوص عليه في المادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة. هذا المبدأ هو حجر الزاوية في النظام الدولي الحديث، وأن محاولات واشنطن لتغيير النظام بالقوة الاقتصادية أو العسكرية تُعتبر خرقاً لهذا المبدأ، مما يضعف مصداقية الولايات المتحدة في المحافل الدولية.
- العقوبات الأحادية والشرعية الدولية:
تُعتبر العقوبات الأمريكية عقوبات أحادية الجانب، حيث لم يتم فرضها بقرار من مجلس الأمن الدولي، وهذا يضعف شرعيتها الدولية ويجعلها عرضة للانتقاد من قبل دول عدة ترى فيها أداة للهيمنة السياسية والاقتصادية، فمن الناحية القانونية، تفتقر هذه العقوبات إلى الأساس الملزم دولياً، مما يتيح للدول الأخرى خاصة الصين وروسيا تجاهلها والتعامل مع فنزويلا من دون خوف من المساءلة الدولية، باستثناء العقوبات الثانوية الأمريكية.
- التهديد بالقوة والمسؤولية الدولية:
أي عمل عسكري مباشر ضد فنزويلا، كما أشارت بعض السيناريوهات، سيمثل خرقاً للمادة 2 من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر التهديد بالقوة أو استخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة، وإن التلويح بالخيار العسكري، حتى لو كان محدوداً، يضع الولايات المتحدة في موقف انتهاك للقانون الدولي، مما قد يؤدي إلى ردود فعل دولية قوية، خاصة من روسيا والصين، التي قد تستخدم حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد أي قرار يدعم التدخل الأمريكي.
رابعاً: السيناريوهات المستقبلية المحتملة
تتوقف مسارات الأزمة على مدى استعداد واشنطن لتصعيد الضغط، وقدرة كاراكاس على الصمود بدعم حلفائها.
السيناريو الأول: استمرار الضغط المُنظم (الوضع الراهن)
استمرار العقوبات الاقتصادية والضغوط الدبلوماسية والتهديدات الأمنية غير المباشرة مثل مكافحة المخدرات، بهدف إضعاف النظام تدريجياً من دون تدخل عسكري مباشر. وهذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، حيث يتيح لواشنطن تحقيق أهدافها بأقل كلفة سياسية وعسكرية، مع الحفاظ على خطاب التهديد كأداة ضغط مستمرة.
السيناريو الثاني: التصعيد العسكري المحدود
قد تلجأ واشنطن إلى عمليات عسكرية محدودة، مثل ضرب أهداف عسكرية محددة أو فرض حصار بحري، تحت ذريعة مكافحة الإرهاب أو المخدرات. هذا السيناريو محفوف بالمخاطر بسبب الرد المحتمل من روسيا وإيران، وقد يؤدي إلى حرب بالوكالة في المنطقة.
السيناريو الثالث: التسوية السياسية المشروطة
قد تخفف واشنطن العقوبات مقابل إجراء انتخابات حرة ونزيهة ومراقبة دولية. هذا يتطلب تنازلات من مادورو، وهو ما قد يحدث في حال تدهور الوضع الاقتصادي بشكل لا يمكن السيطرة عليه، أو في حال شعور واشنطن بأن النظام قد استنفد قدرته على التكيف.
السيناريو الرابع: التدخل العسكري الشامل
استخدام قوة عسكرية ساحقة لتغيير النظام. هذا السيناريو هو الأكثر خطورة، حيث يهدد بحرب مدمرة في المنطقة، ويزيد من موجات الهجرة، ويواجه معارضة دولية واسعة، لأن الكلفة البشرية والسياسية لهذا الخيار تجعله غير مرجح، خاصة في ظل وجود قوى دولية منافسة تدعم النظام.
ونرى في الختام أن السيناريو الأول (استمرار الضغط المُنظم) هو الأكثر ترجيحاً في المدى القريب، فالولايات المتحدة تستخدم العقوبات كأداة حرب اقتصادية فعالة، وتصعد من خطاب التهديد الأمني غير التقليدي لتبرير وجودها العسكري في المنطقة، ومع ذلك، فإن الدعم اللوجستي الذي تتلقاه فنزويلا من روسيا والصين يرفع من كلفة أي تدخل عسكري مباشر، مما يجعل الخيار العسكري الشامل خياراً غير مرجح حالياً.
إن استمرار هذا الصراع، الذي يتجاوز الخلاف الثنائي ليصبح صراعاً على التعددية القطبية والسيطرة على الموارد، يضمن استمرار حالة عدم الاستقرار في فنزويلا، ويزيد من معاناة شعبها، ويجعل من التسوية السياسية الشاملة الحل الوحيد المستدام، رغم صعوبة تحقيقه في ظل التنافس الجيوسياسي الحالي، وإن التحدي الأكبر الذي يواجه فنزويلا هو الحفاظ على توازن دقيق بين الصمود في وجه العقوبات والتهديدات الأمريكية، وبين عدم الانزلاق إلى حرب إقليمية بالوكالة تخدم مصالح القوى العظمى على حساب سيادتها واستقرارها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
*كاتب وباحث سياسي
حائز على الماجستير في العلوم السياسية

