سقوط الفاشر… هل يعيد إنتاج سيناريو التقسيم الليبي في السودان؟

الفاشر-مع-الشعار1

أبوبكر عبدالله*

على رغم الآمال التي أشاعتها ظهور خارطة طريق إقليمية دولية جديدة؛ لوضع حد للحرب في السودان ضمن جهود “الآلية الرباعية الدولية” في سبتمبر الماضي، جاءت التطورات العسكرية على الأرض في إقليم شمال دارفور لتخلط أوراق المعادلة كليا، بعدما تمكنت مليشيا الدعم السريع من السيطرة على مدينة الفاشر ذات الأهمية الاستراتيجية في إقليم شمال دارفور، بعد أن ظلت صامدة تحت سيطرة الجيش السوداني ما يقارب عامين ونصف.

كانت المفاجأة مزلزلة بالنسبة للشارع السوداني، وكذلك للجيش الذي لم يكمل تثبيت انتصاراته في معارك استعادة السيطرة على الخرطوم وأقاليم الشمال والوسط، حتى سجل انسحاباً غامضاً لتشكيلاته المنهكة من هذه المدينة التي ظلت تحت حصار قوات الدعم السريع لـ 18 شهراً قبل أن تتمكن من اجتياحها، وإعلان فرض السيطرة الكاملة على إقليم شمال دارفور المترامي الأطراف.

جاءت سيطرة مليشيا الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو، الشهير بـ ” حميدتي” على الفاشر بعد عمليات استنزاف للجيش وكتائب المتطوعين، ولا سيما بعد أن أدى قطع خطوط الإمداد عنهم مدة طويلة، وعزلهم بقطع أنظمة الاتصالات الدولية “الثريا” إلى إرغامهم على الانسحاب الكامل من المدينة دون قتال.

في الأشهر الماضية كانت مليشيا الدعم السريع التي فرت من العاصمة الخرطوم وولايات الشرق والوسط، واتخذت إقليم شمال دارفور ملاذا أخيرا لها بعد خسائرها العسكرية هناك، غير أن عاصمة الأقليم ظلت خاضعة لسيطرة الجيش السوداني حتى الأيام الأخيرة من الشهر الماضي.

بسقوط هذه المدينة أنهت مليشيا الدعم السريع آخر حصون الجيش السوداني في الإقليم، ما أثار أسئلة كثيرة: عن أسباب هزيمة الجيش السوداني في هذه المدينة الاستراتيجية، ومستقبل إقليم شمال دارفور بعد أن خرج بالكامل عن سيطرة مجلس السيادة الانتقالي بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، ولم يكن الجيش في ظل الظروف الراهنة قادراً على استعادة السيطرة على الإقليم، التي يخطط تحالف “تأسيس” لأن يكون منطلقا لتقسيم السودان إلى قسمين شمالي وجنوبي.

تداعيات مفاجئة:

بدأت مليشيا الدعم السريع بمحاصرة مدينة الفاشر منذ الأيام الأولى للحرب، وكثفت حصارها على المدينة بعد فرار قواتها من مناطق إقليم الخرطوم في مايو العام الماضي، واستمرت في ذلك حتى 26 أكتوبر الماضي؛ إذ أعلنت السيطرة على مقر قيادة الجيش واجتياح المدينة التي بدت خالية من أي قوات حكومية سوى من المدنيين المتهمين بالتعاون مع الجيش، الذين تعرض بعضهم لجرائم إبادة جماعية أثارت انتقادات أممية ودولية واسعة.

وعلى إعلان قيادة الجيش ما سمته “انسحابا تكتيكيا” من المدينة إلا أن الوقائع أثبتت أن الجيش استُنزف بعد حصار المدينة من جهاتها الأربع، وهذا الأمر الذي مكن قوات الدعم السريع من التقدم ببطء، وإضعاف دفاعات الجيش تدريجياً وصولاً إلى الاجتياح الكامل.

وهذه المرة -أيضا- لم يختلف أسلوب قوات الدعم السريع في القتال عن أسلوبها المعروف منذ تفجر الحرب الأهلية؛ إذ دمرت الكثير من مرافق البنية التحتية بالمدفعية والمسيرات، وتسببت بحصول شلل في مستوى الخدمات وحالة تشرد واسعة طاولت نحو 1.5 مليون نسمة من سكان المدينة والنازحين، قبل أن تسيطر على المواقع الاستراتيجية في المدينة ومقر الفرقة السادسة التابعة للجيش.

أهمية استراتيجية:

لمدة عامين ونصف من الحرب أتاحت سيطرة الجيش السوداني على المدينة، ملاًذا آمنا لسكانها، وكذلك ما يقارب  800 ألف نازح كانوا فروا إلى مدينة الفاشر؛ بحثا عن المأوى والأمن والطعام.

لكن المجال الآمن الذي تشكل خلال شهور الحرب تغير كليا بعد أن تحولت المدينة إلى رأس حربة في الصراع؛ نتيجة فشل جهود المفاوضات في المسارات العربية والدولية والإفريقية، ومحاولات كل طرف السيطرة على المدينة؛ أملا في تحسين مركزه العسكري والتفاوضي.

السبب في ذلك أن مدينة الفاشر الحدودية ظلت ولا تزال ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للجيش السوادني وقوات الدعم السريع؛ لأنها المقر التاريخي للقوت المسلحة السودانية في الأقاليم الجنوبية، ناهيك عن أنها المركز التجاري الاستراتيجي المهم، الذي يربط السودان بليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى.

وموقع المدينة الذي أهلها لتكون نقطة التقاء بين ولايات الشمال والغرب والوسط، جعلها مركز ثقل إداري واقتصادي وعسكري، يمتد تأثيره إلى ولايات كردفان ونهر النيل والشمالية، ناهيك عن جعلها مركز الربط الرئيس للسودان بعمقه الإفريقي.

هذه المعطيات جعلت سقوط الفاشر تحولا جيوسياسيا كبيراً أعاد رسم حدود مناطق نفوذ الجيش والدعم السريع، ومنح الأخيرة خطاً دفاعياً طبيعياً، يمتد من دارفور إلى كردفان كما أتاح لها التحكم بالممر الغربي للبلاد، ناهيك عمَّا سيؤمنه موقعها لقوات الدعم السريع وحكومتهم الموازية من مزايا في تلقي الإمدادات العسكرية واللوجيستية عبر الحدود.

ومن الناحية العسكرية مَّثل سقوط الفاشر نقطة تحول استراتيجية في مسار الحرب؛ نظرا إلى الأهمية الاستراتيجية للمدينة التي كانت حتى وقت قريب آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، الذي يعج بالحركات المسلحة المناهضة للحكومة السودانية والخارجة عن سيطرة الجيش.

عوامل حسم:

يمكن الإشارة إلى عدة عوامل أدت إلى فشل قوات الجيش السوداني في المحافظة على مدينة الفاشر وإقليم شمال دارفور بصورة عامة، يتصدرها تركيز الجيش على جبهات أخرى، مثل العاصمة الخرطوم التي استعادها في مارس الماضي، وتوجيه جزء كبير من موارده الحربية لتأمين المناطق الحيوية في شمال ووسط وشرق البلاد.

العامل الثاني: فشل الجيش في كسر الحصار الذي فرضته مليشيا الدعم السريع على مدينة الفاشر، بما في ذلك عمليات الإنزال الجوي التي أجهضتها بسهولة الدعم السريع خلال الشهور الماضية، ما أدى إلى انقطاع خطوط الإمداد اللوجستية، ومن ثَمَّ إضعاف قوات الجيش وكتائب القبائل المتحالفة معه التي استنزفت كليا خلال الشهور الماضية.

وما حدث واقعاً أن قوات الجيش انسحبت من وسط مدينة الفاشر حيث القاعدة العسكرية الرئيسة للجيش إلى مناطق الشمال الغربي في طويلة وكورما، كما سحبت تشكيلاتها العسكرية فجأة من مواقعها في الأسواق والأحياء والشوارع الرئيسة للمدينة؛ لتترك مئات الآلاف من المدنيين الذين لم يجدوا وسيلة للهرب من داخل المدينة سوى نيران قوات الدعم السريع التي ارتكبت مذابح وحشية بحق آلاف المدنيين.

نتيجة هذه الانسحابات كانت خسارة فادحة من الناحيتين العسكرية والسياسية؛ إذ إن السيطرة السهلة للدعم السريع على المدينة، جعلها مسيطرة فعليا على الولايات الخمس لإقليم شمال دارفور، ما جعل فرص الجيش في استعادة السيطرة على هذا الإقليم أو أي من مدنه الاستراتيجية محدودة ومعقدة، وتتطلب موارد هائلة.

والمُرجح أن يواجه الجيش السوداني في هذه المهمة تحديات كبيرة، في مقدمتها تفوق وقوة الدعم السريع داخل الإقليم الذي يعد مسقط رأس معظم مقاتليه.

وهذه المعادلة ستفرض تغيرات كثيرة في المشهد العسكري، قد تشجع مليشيا الدعم السريع على نقل الحرب إلى منطقة كردفان الوسطى الغنية بالنفط التي لا تزال حتى اليوم خاضعة لسيطرة الجيش السوداني، وذلك بسبب أهميتها الاقتصادية، وكذلك أهميتها الاستراتيجية في تأمين الطرق الرابطة بين وسط السودان ودارفور.

سيناريو التقسيم:

بعيدًا عن معادلات الانتصار والهزيمة في المشهد العسكري، يترقب الشارع السوداني بقلق تحولات سياسية بالغة الخطورة بعد سقوط مدينة الفاشر، تتصاعد فيها مخاطر التقسيم الذي يتوقع أن يتحول إلى أمر واقع في ظل تراجع فرص الحل السياسي.

وهذا السيناريو لم يكن جديدا على كل حال؛ فقد بدأ مع التوجهات التي تبنتها قوات الدعم السريع وبعض القوى السياسية المساندة لها؛ لتشكيل إطار سياسي عسكري عن طريق تحالف السودان التأسيسي (تأسيس)، الذي أعلن عن تشكيله رسميا بداية العام الجاري برئاسة قائد مليشيا الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بمزاعم توحيد القوى المناهضة للجيش السوداني وتشكيل حكومة موازية.

تشكل هذا التحالف من مليشيا الدعم السريع والحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، الذي تولى منصب نائب رئيس مجلس الرئاسة، والجبهة الثورية وبعض التيارات المنشقة من حزبي الأمة القومي والاتحادي الديموقراطي وشخصيات سياسية وقبلية؛ بهدف مواجهة سلطة مجلس السيادة الانتقالي، و”بناء سودان جديد قائم على الحرية والعدالة والمساواة، وإقامة دولة علمانية ديمقراطية اتحادية”.

وقد أعلن “تحالف “تأسيس” عن تشكيل مجلس رئاسي برئاسة دقلو، كما شكل حكومة موازية في يوليو الماضي في مدينة نيالا بدارفور، برئاسة عضو مجلس السيادة الانتقالي السابق محمد حسن التعايشي.

بدا واضحًا منذ البداية أن تشكيل هذا التحالف كان محاولة من قوات الدعم السريع وحلفائها تشكيل غطاء سياسي ومؤسسي لسيطرتهم العسكرية على مناطق غرب السودان، وإعداد أنفسهم بوضعهم تيارًا سياسيًا عسكريًا وازنًا في أي مفاوضات سياسية مستقبلية.

غير بعيد عن ذلك محاولتهم ترسيخ أمر واقع جديد في هياكل الحكم في السودان، وهذا الأمر الذي كان ينتظر فقط سيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشر؛ لأنها آخر معاقل مجلس السيادة الانتقالي في إقليم شمال دارفور.

والسيطرة على هذه المدينة فصلت بشكل نهائي مناطق نفوذ مجلس السيادة الانتقالي المسيطرة حاليا على الولايات الشمالية والشرقية، عن مناطق نفوذ قوات الدعم السريع المسيطرة بالكامل على مناطق في الجنوب الغربي، وعلى الحدود مع إفريقيا الوسطى.

ماذا بعد الفاشر؟

بعد سقوط مدينة الفاشر، صار واضحًا أن السودان يقف على اعتاب مرحلة شديدة التعقيد، تتداخل فيها الحسابات العسكرية مع الرهانات السياسة، التي تجعل شبح التقسيم أمرًا واردًا في المستقبل القريب.

والتداعيات العسكرية الأخيرة وضعت السودان أمام مسارين محتملين للحرب، الأول: حصول تصعيد عسكري شامل يتجه شرقًا نحو ولاية كردفان مرحلة أولى، في ظل مساعي مليشيا الدعم السريع لتوسيع نفوذها العسكري والسياسي، وتحويل مكاسبها في دارفور إلى سيطرة أوسع على الممرات الاستراتيجية، ما قد يؤدي إلى انفجار حرب جديدة في مناطق أكثر كثافة سكانية، يصعب من مهمة الجيش السوداني حسمها بسرعة.

والمسار الثاني: ممكن الحدوث في حال انخرط طرفا الصراع في مفاوضات سلام تحت ضغط دولي؛ للوصول إلى تسويات تنهي النزاع، وهي بكل الأحوال لن تخرج عن تسوية تقوم على الأمر الواقع والاعتراف بخطوط السيطرة الحالية لطرفي الصراع مقابل هدنة طويلة الأمد، ستكرس واقع التقسيم الجغرافي والسياسي للسودان.

والحركة في المسارين ستعتمد على التفاعلات الميدانية، وقدرة كل طرف على ترتيب أوضاع جديدة؛ تمكنه من شن جولات حرب جديدة أو الحفاظ على المكاسب المحققة.

والمرجح أن تقود الحوافز الجديدة لمليشيا الدعم السريع بسيطرتها الكاملة على إقليم شمال دارفور إلى توسيع نشاطات التجنيد، ونقل المعارك مع الجيش نحو إقليم شمال كردفان، حيث تدور منذ مدة طويلة مواجهات كر وفر بين الجانبين اللذين يسعيان للسيطرة على المدن الاستراتيجية في هذا الإقليم.

ولا شك أن تحقيق الدعم السريع أي انتصارات في جبهات مثل كردفان أو جبهات الشمال والشرق سيمنحها رقعة جغرافية أكبر، تمكنها من الحصول على مصادر تمويل داخلية بديلة عن الدعم الخارجي، وسيمحنها شرعية سياسية لتقدم نفسها ندًا لمجلس السيادة الانتقالي في أي مفاوضات قادمة.

مع ذلك فإن الجرائم والانتهاكات المنسوبة لمليشا الدعم السريع -لا شك- ستنتج تحولات سياسية ودبلوماسية كبيرة في تصاعد الإدانات لها ووضعها تحت المجهر، وفي تقلص الدعم الخارجي، وهذا من شأنه أن يعزز الشرعية السياسية للجيش السوداني بوصفه جهة رسمية تواجه ميليشيا متهمة بارتكاب جرائم حرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب ومحلل سياسي

كاتب