إبراهيم الحكيم*
برز على نحو لافت، في السنوات الأخيرة، وبخاصة عقب توقيع الإمارات والكيان الصهيوني “معاهدة ابراهام” وملاحقها الأمنية والعسكرية، نشاط مريب للإمارات في تشييد القواعد والمطارات العسكرية في السواحل والجزر اليمنية الاستراتيجية.
اتسم هذا النشاط الإماراتي بغطاء سري وتمويه ذكي، لكنه لم ينج من الرصد والتوثيق بالدلائل القاطعة، على نحو أثار جدلا وتساؤلات عدة عن غايات هذا النشاط، وإمكانية استغلال أطراف إقليمية بينها الكيان الصهيوني لهذه المنشآت في أي تصعيد عسكري محتمل.
الخلفية الجيوسياسية
ترجع بداية النشاط الإماراتي إلى إظهارها اهتماما كبيرا بالسواحل والموانئ اليمنية منذ بدء مشاركتها إلى جانب السعودية في الحرب على اليمن وما يسمى بعاصفة الحزم (26 مارس 2015).
وعلى الرغم من التنافس الاقتصادي والسياسي للحليفين في المنطقة، إلا أن مشاركة الإمارات بدور عسكري أساسي في الحرب، بدا ضرورة سياسية للسعودية لإبعاد شبهة أطماع الغزو والاحتلال لليمن من دولة تربطها معها حدود مشتركة.
لكن الإمارات سرعان ما صرحت بأطماع خاصة لها في اليمن، تمثلت في بسط نفوذها على الشريط الساحلي لليمن الممتد بطول يتجاوز 2500 كم، منها نحو (700 كم) على البحر الأحمر و(1500 كم) على البحر العربي، وأبرز الجزر فيهما.
يمتلك اليمن نحو 200 جزيرة منها 180 جزيرة تتواجد فيها تجمعات سكانية، مقيمة وغير مقيمة طوال العام، وأبرزها في البحر الأحمر: جزر كمران وحنيش وزقر وميون، وفي بحر العرب والمحيط الهندي أرخبيل سقطرى وأبرزها: سمحة وعبد الكوري.
يوفر موقع اليمن الاستراتيجي وشريطه الساحلي وجزره، أهمية استراتيجية بالغة، تكمن في الهيمنة على الملاحة البحرية، بشقيها التجارية والعسكرية، عبر ثالث أهم المضايق البحرية ممثلا في مضيق باب المندب، والرابط بين قارات أسيا وأفريقيا وأوروبا.
تبرز أهمية سواحل اليمن وجزره في تحكمها المباشر بالطرق التجارية بين الشرق والغرب، عبر البحر الأحمر الذي تمر خلاله 3,3 مليون برميل نفط يوميا و21 ألف سفينة سنويا تمثل شحناتها التجارية ما يعادل 10% من الشحنات التجارية العالمية.
وأظهرت الإمارات مساع حثيثة لفرض هيمنتها على الملاحة الدولية في المنطقة وخارجها، عبر السيطرة على الموانئ من خلال عقود إيجار لصالح شركة موانئ دبي العالمية، أو من خلال نشر مليشيات مسلحة محلية تؤمن الهيمنة الإماراتية المباشرة.
تكرر هذا السلوك الإماراتي على مدى العشرين عاما الماضية، عبر استئجار ميناء عدن (2009-2012)، وميناء عصب، وموانئ جيبوتي، والصومال لاند، ثم عبر تمويل مليشيات مسلحة في كل من جنوب وغرب اليمن، منذ 2015، والسودان منذ 2023.
أهداف وأبعاد متعددة:
تحذو الإمارات في هذا النهج حذو النشاط العسكري والسياسي لما عُرف “شركة الهند الشرقية البريطانية”، عبر نشاط مماثل في اليمن والسودان واريتريا وجيبوتي والصومال، يؤمن نقاط إسناد لوجستي، وامتداد نفوذ جيو-استراتيجي من الخليج إلى القرن الإفريقي.
وتبرز ثلاثة أبعاد رئيسة لهذا النهج الإماراتي في اليمن: الأول عسكري بفعل ظروف الحرب في اليمن، وارتباط تشييد الإمارات هذه المنشآت العسكرية بنشر قوات محلية موالية وممولة من الإمارات.
كما يبرز البعد الثاني سياسيا في إطار مد وبسط النفوذ الإماراتي في المنطقة، وتحقيق طموحات ابوظبي إلى الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية، إقليميا، والتحول إلى لاعب مهم في المنطقة على الصعيد الدولي.
والبعد الثالث اقتصادي، يتمثل في الموارد الاستثمارية للجزر اليمنية: ملاحيا (خدمات المياه والوقود والصيانة) وسمكيا (صيد الأسماك والأحياء البحرية)، وتعدينيا (تنقيب وإنتاج المعادن)، وسياحيا (منتجعات فندقية وترفيهية).
بجانب امتلاك الامارات مقدرة التحكم بخطوط الملاحة الدولية والموانئ التي تمر عبرها السفن، لصالح ازدهار موانئ شركة دبي للموانئ العالمية، على حساب انحسار النشاط الملاحي في الموانئ اليمنية، كما حدث خلال استئجار شركة دبي للموانئ ميناء عدن.
الوقائع الميدانية
عمَّدت الإمارات إلى تقديم دعم عسكري ومالي مباشرين لإنشاء مليشيات محلية في اليمن، وتدخل طيرانها الحربي لتمكين قوات بقيادة عبد الرحمن المحرمي وعيدروس الزُبيدي للسيطرة على عدن وسقطرى والشريط الساحلي الجنوبي لليمن، بدءا من 2017.
بالتوازي، دعمت الإمارات علنيا، إنشاء قوات بقيادة طارق صالح تحت مسمى “حراس الجمهورية”، وتدخل الطيران الحربي الإماراتي لدعم سيطرة هذه القوات على الشريط الساحلي الغربي لليمن المطل على البحر الأحمر، بدءا من العام 2018.
وفي مايو 2021، كشفت وكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، عن إنشاءات كثيفة في جزيرة ميون (بريم) الواقعة بفم مضيق باب المندب، ونشرت صورا التقطت بواسطة الأقمار الاصطناعية، لمطار غامض ومدرج جوي، وأكدت انعدام معرفة السلطات اليمنية.
أثار ما نشرته الوكالة الأمريكية جدلا كبيرا في اليمن، دفع البعض إلى مطالبة حكومة معين عبدالملك الموالية للتحالف السعودي الإماراتي في عدن، حينها، بإيضاح رسمي، لم تتقدم به، بينما أعلن التحالف أن “المطار لخدمة قوات يمنية”.
وفي العام 2023م نشرت منصات مختصة بالمطارات ووسائل إعلام دولية بينها وكالة “اسوشيتد برس” الأمريكية، تقارير مدعومة بصور عبر أقمار اصطناعية، لبناء مدرج طائرات بطول يقارب 2 كم في جزيرة عبدالكوري (قبالة خليج عدن/باب المندب).
سجلت تقارير ومواقع رصد الحركة الملاحية وتتبع السفن، تحركات لسفن إماراتية إلى الجزيرة، ووجود معدات وشحنات مرتبطة بشركات إماراتية، علاوة على انتشار قوات مرتبطة بالمجلس الانتقالي الجنوبي الانفصالي المدعوم من الإمارات.
ومؤخرا، اعترفت السلطات التابعة إلى “المجلس الانتقالي الجنوبي” المدعوم من الإمارات، بالمطار في جزيرة عبدالكوري، وقامت بتدشينه رسميا، مع توجيه الشكر للإمارات على تمويل وتشييد المطار بزعم أنه “ينهي عزلة الجزيرة ويدفع بها إلى التنمية”.
لم تكد تمضي أشهر حتى كشفت تقارير إعلامية وصور بالأقمار الاصطناعية عن أعمال تشييد مدرج مماثل على جزيرة زُقَر اليمنية في البحر الأحمر، وتناسب طول المدرج وتصميمه مع مقدرة استقبال طائرات نقل ومراقبة، ما رجح استخداماته العسكرية.
أغطية النشاط الإماراتي
تتحفظ الإمارات لدوافع سياسية، على إشهار دورها في تشييد القواعد والمطارات العسكرية على سواحل اليمن وفي جزره الإستراتيجية المهيمنة على الملاحة الدولية، في المحيط الهندي وبحر العرب وخليج عدن ومضيق باب المندب والبحر الأحمر.
لكن دلائل عدة تؤكد دور الإمارات العسكري في تشييد هذه القواعد، بينها: سجلات شحن تربط سفناً مسجلة في موانئ إماراتية بالمواقع، وعقود أو طلبات لخدمات (مثل إسفلت)، نشاط شركات مرتبطة بموانئ إماراتية، وتواجد قوات محلية موالية لأبوظبي.
وتتوخى أبوظبي التخفي وراء منظمات غير حكومية مثل الهلال الأحمر الإماراتي أو مؤسسات إنسانية مثل “مؤسسة خليفة”، إضافة إلى استخدام شركات خاصة أو عبر ترتيبات لوجستية غير معلنة، حمايةً للسلطات الموالية لها ومنعا للاستهداف من مقاومة محلية.
لكن التدخلات الإماراتية الأمنية والعسكرية في الجزر اليمنية، تظل مثبتة بارتباط مواقع هذه التدخلات بنشر قوات محلية موالية وممولة من الإمارات، وبخاصة قوات طارق صالح في الساحل الغربي لليمن وجزره، وقوات “الانتقالي الجنوبي” في جنوب اليمن.
خدمات الإمارات للكيان الصهيوني باليمن
بدا لافتا، ارتفاع وتيرة النشاط الإماراتي في تشييد القواعد والمطارات العسكرية بسواحل اليمن وجزره الاستراتيجية في البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب والمحيط الهندي، في أعقاب توقيع الإمارات والكيان الصهيوني “اتفاقية ابراهام” في سبتمبر 2020.
وفي 28 أغسطس 2020، ذكر موقع “ساوث فرونت” (South Front) الأميركي المتخصص في الأبحاث العسكرية والاستراتيجية أن “الإمارات وإسرائيل تعتزمان إنشاء مرافق عسكرية واستخبارية في أرخبيل محافظة سقطرى اليمنية بالمحيط الهندي”.
عزز إعلام الكيان الصهيوني تسريبات وتحليلات سياسية وعسكرية بشأن أهداف الإمارات من تشييد مطار في جزيرة زقر، معلنا عمَّا سماه “مساعدة إماراتية في الحد من هجمات الحوثيين (أنصار الله) على الكيان وملاحته عبر البحر الأحمر”.
ووفقا لما أعلنته وسائل إعلام الكيان الصهيوني، نهاية سبتمبر 2025؛ فإن الإمارات قامت بتفعيل منظومة رادارات حديثة في جزيرة زقر بالتعاون مع القيادة المركزية للقوات الأمريكية (سنتكوم) ضمن جهود التصدي لهجمات أنصار الله وحماية الملاحة الدولية.
على أن تصاميم ومواصفات المطارات والمنشآت الإماراتية في السواحل والجزر اليمنية، تدفع المتخصصين لتأكيد إمكانية استخدامها لأغراض عسكرية، والربط بين توقيت تشييد هذه المنشآت وعمليات إسناد اليمن لغزة بمواجهة العدوان الصهيوني وحصاره.
وفي هذا، يفيد الخبراء بأن المطارات المشيدة في جزر اليمن يمكنها فنيا وتقنيا توفير الكثير من الوقت والجهد وتأمين التزود بالوقود لمقاتلات حربية تابعة لجيش الكيان الصهيوني، ودعم تنفيذها غارات جوية على صنعاء ومناطق السلطات اليمنية بقيادة “أنصار الله”.
المخاطر والتداعيات المتوقعة
مع ذلك، يتفق الخبراء العسكريون في ان استغلال الكيان الصهيوني لهذه المنشآت بصورة مباشرة ومعلنة سيكون مكلفا سياسيا واقتصاديا للغاية، لكونه سيشكل تدخلا مباشرا في دولة ثالثة، وسيزيد خطر ردود الفعل المحلية وتوسيع المواجهة ودائرة الصراع إقليميا.
عمليا، تبرز سلسة مخاطر وتداعيات لاستخدام هذه المطارات والمنشآت في السواحل والجزر اليمنية ضد اليمن، أبرزها رد عسكري مباشر من جانب اليمن بقيادة “أنصار الله”، وقد يجر هذا إلى تدخل حلفاء إقليميين مثل إيران والعراق ولبنان وغيرهم.
وبجانب مخاطر امتداد الصراع، تبرز انعكاسات مثل هذه التدخلات المحتملة للكيان الصهيوني بمساعدة إماراتية في اليمن، على الصراع المحلي، من حيث إبراز تورط الفصائل المسلحة الموالية للتحالف، في حماية الكيان الصهيوني ومصالحه.
يضاف إلى هذه المخاطر الناجمة عن تقويض السيادة اليمنية، تهديد أمن الملاحة والتجارة الدوليتين عبر مياه اليمن الإقليمية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي، ما سيلحق أضرارا بالغة بخطوط الشحن التجارية وكلفته.
لهذا، يرجح الخبراء والمراقبون اقتصار استغلال الكيان الصهيوني لهذه المنشآت الإماراتية في سواحل اليمن وجزره الاستراتيجية، على أغراض استخباراتية ولوجستية، أكثر منها عسكرية مباشرة، مرجعين ذلك إلى مخاطر وتداعيات عدة، محليا وإقليميا ودوليا.
وفي حين يجمع المراقبون السياسيون على هذه المخاطر، فإنهم يتفقون في أن التدخلات الإماراتية العسكرية في اليمن، يجب أن تخضع للرقابة المحلية والإقليمية والدولية، وأن يتم كبحها وأغراضها على المديين القريب والبعيد، منعا لتفجير صراع يتجاوز الإقليم ويهدد امن ومصالح العالم.
____________
*كاتب وباحث سياسي

