ثلاثة سيناريوهات صعبة في الحرب الأميركية المحتملة على فنزويلا

امريكا-وفنزويلا

أبوبكر عبد الله*

تبدو العملية التي أطلقتها واشنطن لمكافحة المخدرات في البحر الكاريبي قرب سواحل فنزويلا في طريقها إلى التحول إلى عملية عسكريه مباشرة، فبعد أسابيع من نشر واشنطن قوات ضاربة هناك وشنها هجمات على من تسميهم كارتيلات المخدرات، ظهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب متحدثا عن عمليات على الأرض ستشهدها فنزويلا قريبا، وهذا عُدَّ إفصاحاً عن عمليات عسكرية أو مخابراتية وشيكة، ضد هذا البلد الذي يعيش حالة استنفار عسكري قصوى؛ استعدادا لمواجهة غزو أميركي محتمل.

ومع وصول طلائع من القوات الأميركية إلى جزيرة ترينيداد القريبة من سواحل فنزويلا، شهدت المدن الفنزويلية تصعيدا غير مسبوق في التحركات العسكرية؛ استعدادا للمواجهة المحتملة.

زاد ذلك التصعيد إعلان وزير الحرب الأميركي التعامل مع عصابات تهريب المخدرات كتنظيم “داعش”، وهو التصريح الذي زاد من حدة التوتر التي انتقلت إلى كولمبيا، التي بدأت تتعرض هي الأخرى لعقوبات أميركية جراء محاولتها تأكيد استقلالية سياستها الخارجية، وكذلك البرازيل التي دعا رئيسها لولا دي سيلفا واشنطن إلى التخلي عن استراتيجية التدخلات العسكرية في أميركا اللاتينية واختيار التعاون لمكافحة المخدرات.

تصعيد كبير:

إنَّ الحديث عن عملية عسكرية أميركية محتملة في فنزويلا لم يكن عابرا هذه المرة، فخلال الأيام الماضية كانت منطقة الكاريبي مسرحا لتحركات عسكرية حلقت فوقها قاذفات استراتيجية أميركية من طراز B1 على مقربة من سواحل فنزويلا، في ثاني مهمة تنفذها في الكاريبي منذ 15 أكتوبر الماضي، تلاها نشر البنتاغون حاملة الطائرات ” يو إس إس جيرالد ”  في منطقة قيادة القوات الجنوبية الأميركية، وهي الحاملة الأكبر في العالم، وهذه رسالة من واشنطن بالإصرار على إحداث تغيير في المنطقة واستعراض قدرتها على ردع الخصوم والاستجابة للطوارئ.

وبالتزامن مع استعراضات للقوة التي قدمتها القيادة الجنوبية للجيش الأمريكي لوحداتها المتمركزة في البحر الكاريبي، تحدثت تقارير عن عمليات سرية محتملة ستقودها وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) تهدف-على ما يبدو-إلى الإطاحة بالرئيس نيكولاس مادورو وحكومته.

وقد توعد الرئيس ترامب بتصعيد الحرب ضد تجارة المخدرات لتشمل عدة دول في أميركا الجنوبية، مهددا بأن الجيش الأميركي سيدخل فنزويلا بعمليات برية، وموجها اتهامات إلى كولمبيا والمكسيك، وكذلك الصين التي اتهمها بتهريب مادة الفنتانيل- وهي مادة مخدرة عالية التأثير- إلى الولايات المتحدة عبر فنزويلا.

ازداد المشهد تعقيدا مع تصريحات أطلقها وزير الحرب الأميركي عدَّ فيها كارتيلات تهريب المخدرات منظمات إرهابية أجنبية معتمدة، ووصفها بأنها “داعش” و “القاعدة” في نصف الكرة الغربي، وتوعده بمعاملتهم مثل التعامل مع “داعش والقاعدة” “سنجدكم. سنرسم خرائط شبكاتكم. سنطاردكم وسنقتلكم”.

حرب التصريحات هذه كان لها أصداء بالداخل الفنزويليي؛ إذ انتجت تحركات شاملة ومتعددة المستويات، شملت استعدادات عسكرية وأمنية وعمليات تعبئة شعبية وحملات دبلوماسية نشطة، ناهيك عن الإجراءات المكثفة لتعزيز الأمن الداخلي.

وأعلن الرئيس مادورو امتلاك بلاده خمسة آلاف منظومة صاروخية، صواريخ أرض-جو من طراز “(Igla-S)” الروسية لتأمين فنزويلا من أي هجمات جوية أميركية، وهي المنظومات التي قال: إنها منتشرة في مواقع رئيسة في جميع أنحاء البلاد؛ لضمان دفاع جوي منيع، فضلا عن نشر الجيش الفنزويلي منظومات دفاع جوي جديدة، شملت وحدات S-125 روسية وصواريخ بافار الإيرانية.

ترافق ذلك مع إعلان كاراكاس إغلاق المجال الجوي، والجهوزية للمعركة، مع مواصلة القوات المسلحة البوليفارية انتشارها في السواحل وسط تدريبات وعمليات استطلاع للطرق البرية، ومراقبة جوية، واستكشاف ورصد إلكتروني، وإطلاق طائرات مسيّرة، وإنزال برمائي؛ لمنع أي محاولة لزعزعة الاستقرار، فضلا عن استعداداتها الداخلية لمواجهة أي عملية سرية ستقوم بها وكالة المخابرات الأمريكية.

كانت أبرز التدابير المتخذة من كاراكاس في إعلان وضع الجيش في أعلى مستوى من التأهب، والشروع بعمل مناورات عسكرية شملت طائرات مسيرة مسلحة وتمارين مضادة للغواصات، وتعزيز القدرات الدفاعية، مع زيادة حالة الاستعداد لسيناريوهات هجمات برية محتملة.

وفي الجانب الآخر صعدت كاراكاس من حملات التعبئة الشعبية بتدريب المدنيين على استخدام الأسلحة وتكتيكات “المقاومة الثورية”، وحشد الدعم الداخلي والإعداد لحرب طويلة الأمد غير تقليدية.

وبدا أن هناك رفضاً إقليماً للتحركات الأميركية التصعيدية، عبرت عنه دول، مثل كوبا وكولومبيا والبرازيل، التي أبدت قلقها من التصعيد، وعدَّت الوجود العسكري الأمريكي مصدر توتر، و” قد يشعل شرارة الحرب” في المنطقة بصورة عامة.

جدل الذرائع:

كان ملاحظا أن ترامب ذهب هذه المرة إلى التصعيد بتدويل المشهد الغامض في الكاريبي عن طريق اتهام رئيس كولمبيا غوستافو بيترو بالسماح لعصابات المخدرات بالازدهار، وكذلك اتهام الصين باستخدام فنزويلا لتهريب مادة الفنتانيل المخدرة، معتبرا أن فنزويلا أصبحت مركزا لتهريب هذه المادة الفتاكة إلى الولايات المتحدة التي تواجه مشكلة صحية عميقة في انتشارها على نطاق واسع، وتسببها في العدد الأكبر من حالات الوفاة المسجلة سنويا.

وهذه المرة بدت عواصم أخرى متفقة مع كاراكاس بشأن ذرائع العمل العسكري الأميركي الهادف إلى الإطاحة بالنظام، خصوصا أن مزاعم جعل فنزويلا مركزا لتهريب الفنتانيل ثم تصنيف واشنطن عصابات المخدرات منظمات “إرهابية” هدف إلى منح الجيش الأميركي صلاحية توسيع استخدام القوة، في ظل التقارير الأميركية الأمنية التي تؤكد أن فنزويلا ليست المصدر الرئيس لمادة الفنتانيل المهربة إلى الولايات المتحدة.

ومادة الفنتانيل عبارة عن مادة مخدرة قوية للغاية، تزيد قوة تأثيرها عن المورفين بـ 100 مرة، ويعادل تأثيرها أكثر من 50 ضعف تأثير مادة الهيروين، وتُعدُّ المسؤول الأول عن الأغلبية العظمى من الوفيات في الولايات المتحدة.

وتضع السجلات الأميركية الرسمية حول تجارة المخدرات الصين في رأس قائمة الموردين للمواد المستخدمة في تصنيع مادة الفنتانيل المخدرة، في حين تُعدُّ المكسيك مركزاً رئيساً للتصنيع، ومنها يجري تهريبه من الحدود إلى الولايات المتحدة.

وكان واضحا أن الغضب الذي أثارته تصريحات ترامب الأخيرة بشأن مادة الفنتانيل سببه الافتقاد للدليل من السجلات الرسمية الأميركية، مما دعم -إلى حد كبير- موقف كاراكاس الذي يرى فيها ذريعة لتحقيق أهداف جيوسياسية|، وفي المقدمة الإطاحة بالنظام والسيطرة على الثروات الطبيعية والموارد النفطية في هذا البلد الغني بالموارد الطبيعية.

وبعيدا عن الجدل السياسي المثار حاليا، ظهرت على السطح عدد من المؤشرات والمعطيات التي ترجح استعداد الجيش الأميركي تنفيذ عملية عسكرية برية في فنزويلا، بعد أن أنشأ مركزا جويا لإدارة العمليات القتالية بواسطة الطائرة الخاصة Bombardier E-11A التي تمركزت في منطقة الكاريبي، ناهيك عن رصد إقلاع عدة طائرات مروحية MV-22 Osprey لقوات مشاة البحرية الأمريكية من قاعدة في بورتو ريكو.

وسجلت أنشطة عدة للطائرات الأميركية العسكرية في المجال الجوي الفنزويلي، بما في ذلك قاذفات صواريخ بعيدة المدى B-1B Lancer، بينما تولت طائرات خاصة تابعة للقوات الجوية الأميركية بطلعات استخباراتية قرب حدود المجال الجوي لفنزويلا.

سيناريوهات الحرب:

إن التطورات الدراماتيكية في ملف حرب المخدرات التي تقودها واشنطن في البحر الكاريبي، فتحت باب التكهنات عن سيناريوهات الحرب، وما إن كانت واشنطن قادرة فعلا على تنفيذ عمليات ناجحة تقود إلى الإطاحة بالرئيس مادورو وحكومته هدفاً نهائياً للحرب المحتملة، وسط تقديرات تذهب إلى أن أي عملية عسكرية أميركية ضد فنزويلا في ظل مستوى القوات المتمركزة حاليا في الكاريبي والاستعدادات الداخلية الفنزويلية لن تكون سهلة.

ذلك أن امتلاك الولايات المتحدة تفوقا عسكريا كاسحا، لا يعني إمكانية تحقيقها انتصارا عسكريا سهلا في منطقة تتهيأ للحرب مع أميركا منذ عقود، بل يعني أنها ستواجه مقاومة شرسة وطويلة الأمد، ما يجعل أي عملية عسكرية معقدة وباهظة التكاليف.

بالإضافة إلى عوامل سياسية وعسكرية وأمنية ستؤثر في أي حرب محتملة بين الجانبين، وفي المقدمة التضاريس الصعبة والقوة العسكرية التي يمتلكها الجيش الفنزويلي، التي تبدو متطورة وقادرة على الدفاع والمواجهة، فضلا عما تملكه من أنظمة دفاع جوي مطورة يمكنها تقليل آثار أو حتى إجهاض أي عمليات جوية مباغتة.

وقياسا بالهدف المعلن من جانب واشنطن فقد أعلنت فنزويلا شروعها بترتيبات التصدي لأي غزو أميركي والدفاع عن الدولة والسيادة والنظام، كما أعلنت عزمها الانخراط في مقاومة طويلة الأمد، تستند على إجراءات بدأت في وقت مبكر بإعلان كاراكاس التعبئة العامة التي جندت ودربت خلالها مئات الآلاف من الكتائب الشعبية لمقاومة طويلة الأمد.

 

استنادا لهذه المعطيات فإن التقديرات تُرجح ثلاثة سيناريوهات للحرب:

 السيناريو الأول: يقتضي توجيه واشنطن ضربات جوية واسعة لتشكيلات القوات المسحة الفنزويلية، تؤدي إلى اضطراب مراكزها القيادية وتفككها في الأيام الأولى، الذي يفسح المجال لتحركات داخلية كقيادة تمرد مسلح مسنود بقوات تدخل برية، أو إدارة انقلاب يطيح بنظام الرئيس مادورو وحكومته.

السيناريو الثاني: يفترض تنفيذ واشنطن عملية مخابراتية كبيرة لزعزعة الاستقرار وإحداث بلبلة داخلية وتداعيات فوضوية تفتح الطريق لتحركات داخلية من قوى المعارضة، تؤدي إلى الإطاحة بنظام الرئيس مادورو وحكومته، بما يؤدي إلى انهيار مفاجئ للنظام على النمط السوري أو الليبي، وتسليم الحكم للمعارضة.

أما السيناريو الثالث: فيفترض شن الجيش الأميركي عملية غزو برية واسعة بالتوازي مع عمليات جوية، وفيها ستواجه القوات الأميركية مقاومة شرسة من جانب الجيش الفنزويلي والمقاومة الشعبية، وقد تضطر واشنطن معها لخوض حرب طويلة لا يريدها الرئيس ترامب في الوقت الحالي.

والسيناريو الأول يبدو بعيدا بالنظر إلى محدودية القوات الأميركية المتمركزة قرب سواحل فنزويلا، التي ينظر إليها أنها قوة ضغط لا قوة حرب، في مقابل تماسك الجيش الفنزويلي، وما تملكه السلطات الفنزويلية من قاعدة شعبية واسعة ومتحمسة قد تجعل من قيادة تمرد مسلح مسألة صعبة، وتحتاج إلى ترتيبات إسناد لوجيستية غير مضمونة النتائج.

والسيناريو الثاني قد يفتح بعض الطريق أمام قوى المعارضة للوصول إلى الحكم، لكنه سيزيد في المقابل من شعبية الرئيس مادورو بطلاً قومياً مدافعاً عن السيادة، في حين أن قدرة المعارضة على السيطرة لن تكون سهلة، وقد يؤدي تصادمها مع مؤيدي نظام مادورو إلى اضطرابات وحرب أهلية طويلة.

وفي السيناريو الثالث يمكن للجيش الأميركي توجيه ضربات قوية للجيش الفنزويلي في الأيام الأولى، قد تضعف قدراته نسبيا، غير أن الغزو البري الذي يؤيده بعض مندفعي إدارة ترامب، لن يكون سهلا كما حدث في حالة دول صغيرة مثل بنما، فعدد سكان فنزويلا يصل إلى 28 ميلون نسمة، وهو عدد كبير، يسمح بتشكيل مقاومة عسكرية وشعبية طويلة المدى.

وكثيراً من التجارب في القارة اللاتينية التي دخلت في صراع مع الولايات المتحدة، مثل كوبا ونيكاراجوا، تشير إلى أن الحكومات اليسارية يمكنها الصمود لسنوات طويلة، كما أن أكثر العمليات السرية التي قادتها واشنطن في الدول اللاتينية باءت بالفشل، بل إن بعضها أسفر عن نتائج عكسية، كما حصل في محاولة الإطاحة بنظام الرئيس الراحل كاسترو.

وفقا لذلك فإن السيناريو الأكثر احتمالا هو شن القوات الأميركية غارات جوية محدودة ومركزة على أهداف محددة دون التورط بهجوم بري واسع؛ لغرض زيادة الضغوط على الرئيس مادورو وحكومته، وهذا إن حصل يبقى غير مضمون للتشجيع على انتفاضة داخلية أو انقلاب عسكري يطيح بنظام مادورو.

ذلك أن النظام في فنزويلا محصن -إلى حد ما- من الانقلابات، إذ قضت حكومة مادورو سنوات في تعزيز الولاء داخل القوات المسلحة، وأفشلت عدداً من الطموحات لقوى المعارضة، كما يصعب التكهن بقدرة واشنطن في التأثير على الجيش الفنزويلي بسهولة للإطاحة بالرئيس مادورو، وهنك حالة من التماسك الداخلي تشكلت على مدى عقدين؛ تجعل الانهيار الداخلي السريع أمراً مستبعداً.

وفي كل السيناريوهات يمكن للولايات المتحدة -على الأرجح- تحقيق نصر عسكري أولي، غير أن المرحلة اللاحقة ستكون بمقام كابوس كبير للولايات المتحدة، ولا سيما في حالة تمدد الصراع إلى بلدان مجاورة، مثل كولمبيا التي ترتبط بفنزويلا بحدود برية طويلة، وبدأت تواجه حرب عقوبات جديدة تشنها الولايات المتحدة، وسط اتهامات متبادلة ومشاعر عداء واسعة للهيمنة الأميركية.

الدعم الخارجي:

المؤكد أن أي عملية عسكرية برية أميركية في فنزويلا ستكون مغامرة عالية المخاطر تفتقد للضمانات الكافية للنجاح، وقد تكون المرحلة العسكرية الأولية سريعة، لكنها ستفتح الباب حتماً لصراع ممتد سيفضي إلى عواقب إنسانية وخيمة ستثير مشاعر النقمة على الولايات المتحدة ليس في فنزويلا وحسب، بل في القارة اللاتينية بصورة عامة.

ويصعب التكهن بحصول دعم عسكري من الدول المجاورة، كما يصعب التكهن بحصولها على دعم خارجي من جانب روسيا والصين يمكن أن يساعدها في المواجهة العسكرية المحتملة مع الولايات المتحدة، فما تقدمه الدولتان من دعم لفنزويلا ليس أكثر من تعاون عسكري تقني اقتصادي، غير أن استمرار هذا الدعم في حال حدوث نزاع عسكري مع الولايات المتحدة يبقى أمرا غير مُرجح.

وفي ظل السياسات الخارجية التي تتبعها الصين والظروف العسكرية التي تعيشها روسيا حاليا فإن الدعم المتوقع أن تحصل عليه كاراكاس من كلا البلدين لن يتجاوز الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي، في سياق تحدًّ النفوذ الأميركي على الساحة العالمية، والدعوة إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب.

كما أن انخراط واشنطن في نزاع عسكري جديد في أميركا الجنوبية سيحول حتما الموارد السياسية والعسكرية والدبلوماسية الأميركية بعيدًا عن أوكرانيا، وهو ما تريده تماما روسيا اليوم.

مع ذلك من غير المستبعد أن تعمل روسيا على استثمار النزاع ولو جزئيا؛ أملا في أن تجرع الولايات المتحدة من نفس الكأس التي تجرعته روسيا بتوحد الغرب الجماعي ضدها في حرب أوكرانيا.

______________

*كاتب ومحلل سياسي

كاتب