أزمة الليبرالية في الولايات المتحدة.. قراءة تحليلية في السياقين الداخلي والدولي

أزمة الليبرالية في الولايات المتحدة

أنس القاضي

الملخص التنفيذي

تعالج هذه الدراسة أزمة الليبرالية في الولايات المتحدة من زاويتين مترابطتين: البعد الداخلي المتعلق بالبنية السياسية والاجتماعية الأمريكية، والبعد الخارجي المرتبط بموقع الليبرالية الأمريكية داخل النظام الدولي، في ظل التحولات الجارية على الصعيد العالمي.

 تنطلق الدراسة من فرضية أن هذه الأزمة ليست عرضية أو ظرفية، بل بنيوية وعميقة، ترتبط بفشل الليبرالية النيوليبرالية في تلبية متطلبات العدالة الاجتماعية والتمثيل الديمقراطي في الداخل، وعجزها عن الحفاظ على الهيمنة الليبرالية عالمياً في ظل نظام القطب الأوحد.

يرتكز التحليل على مقاربة نقدية مستوحاة من مدرسة: التبعية (المناهضة للتبعية)، في فهم العلاقة بين المركز الغربي المهيمن والأطراف التابعة، ويُظهر أن ما تواجهه الولايات المتحدة اليوم هو ارتداد للأزمة على المركز ذاته، بعد عقود من تصديرها إلى الأطراف (الجنوب العالمي)، وفي ظل انكشاف التناقضات الاجتماعية داخل المجتمع الأمريكي، وفقدان الخطاب الليبرالي لقيمته السياسية، تشهد الساحة الأمريكية تصاعداً للشعبوية، وتآكلاً في شرعية المؤسسات الحكومية القائمة، ومحاولات محدودة لإعادة بناء ليبرالية أكثر عدالة واندماجاً، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

وعلى الصعيد العالمي، تواجه الليبرالية الأمريكية تحديات متزايدة بفعل تراجع الهيمنة الأحادية، وفشل نموذج التنمية الليبرالي، وازدواجية المعايير، وتصاعد أقطاب بديلة، مثل الصين وروسيا، وظهور تكتلات جنوبية تتبنى نماذج تنموية وسياسية وأمنية مغايرة كبريكس وشنغهاي.

 وتُظهر الدراسة أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تصدير نموذجها الليبرالي أو الإبقاء عليه مهيمناً، دون مواجهة مقاومة فكرية ومؤسسية من الدول والمجتمعات الأخرى في الجنوب العالمي، كما أنها بدأت تخسر “هالتها الأخلاقية” بوصفها زعيمًا للنظام الليبرالي العالمي، وتخسر قدرتها الإمبراطورية على الاستمرار في الهيمنة.

تستعرض الدراسة أربعة محاور رئيسة:

  1. الجذور التاريخية للأزمة الليبرالية في الولايات المتحدة.
  2. تفاعلات الأزمة بين الداخل الأمريكي والنظام الدولي.
  3. آليات وإمكانيات إعادة التكيّف ومقاومة السقوط.
  4. النتائج والسيناريوهات المحتملة.

وتخلص إلى أن مستقبل الليبرالية الأمريكية يرتبط بقدرتها على إنتاج نموذج جديد يستجيب لمطالب الداخل، ويعيد تعريف دورها في الخارج، أي في تخليها عن النهج الإمبريالي الذي يشكل جوهرها الطبقي، وفي حال عجزها عن ذلك، فإن احتمالات التراجع التدريجي أو حتى الانهيار البنيوي تبقى قائمة، ما سيؤثر بالضرورة في توازنات النظام الدولي، ويمنح هامشاً أوسع لبروز بدائل فكرية وسياسية عالمية تتجاوز النموذج الليبرالي الغربي.

المقدمة:

تعاني الليبرالية الأمريكية اليوم من أزمة مركبة، تعكس تصدعاً داخلياً في العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع، وتراجعاً خارجياً في قدرتها على قيادة النظام الدولي واستمرار هيمنتها الإمبريالية.

 لم تعد الليبرالية تُقدَّم بوصفها أيديولوجيا النصر بعد الحرب الباردة، في ذروة قوة الولايات المتحدة، ولا في ذروة صعودها بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، وبروز مفاهيم “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، -كما قدمه فوكوياما بوصف الليبرالية نهاية التقدم الإنساني-، بل باتت تواجه مساءلة وجودية حول عدالة سياساتها، وجدوى وعودها، وشرعية تمثيلها للمصالح الشعبية في الداخل الأمريكي، ومشروعية قيادتها للنظام الدولي، وإمكانية استمرار هيمنتها المغلفة بالليبرالية على الصعيد العالمي.

وقد كشفت التحولات السياسية والاجتماعية مؤخراً – لا سيما انتخاب دونالد ترامب، وتراجع الثقة بالمؤسسات، وتصاعد الشعبوية اليمينية – عن تآكل الحاضنة الاجتماعية لليبرالية، وهي الحاضنة التي بُنيت تاريخياً على تقاطع المصالح بين النخب المالية، والطبقة الوسطى، والعاملين في الدولة فيما عُرف بالحلم الأمريكي، وهذا الانفصال أفضى إلى تصاعد حركات احتجاجية، وانقسامات هوياتية، وشكوك متزايدة في سردية “أمريكا الليبرالية المنقذة للعالم”.

لكن أزمة الليبرالية لا تنفصل عن سياق أشمل من التحولات الرأسمالية العالمية، فكما تشير بعض القراءات النقدية، فإن التراجع الليبرالي لا يعكس فقط أزمة داخلية أمريكية، بل يكشف عن مأزق أعمق في النظام الرأسمالي المعولم ذاته، الذي بات عاجزاً عن دمج الأطراف في النظام العالمي، وإعادة إنتاج شرعية المراكز المهيمنة، خصوصاً مع موجة تمرد دول الجنوب العالمي على الهيمنة الأمريكية الغربية في أكثر من قارة، وفشل نموذج التنمية الليبرالي، وعدم ثقة شعوب العالم بالولايات المتحدة كصديق أو منقذ، وهذا ما يجري في إفريقيا بشكل خاص.

هنا يبرز خطاب مدرسة نظرية التبعية (Dependency Theory) بوصفه أداة تفسيرية لفهم التصدعات الجارية؛ فالليبرالية، بوصفها الشكل الأيديولوجي للرأسمالية في المركز الإمبريالي، لم تعد قادرة على تصدير نموذجها للعالم بعد أن فشلت في تلبية متطلبات شعوبها ذاتها.

فالتناقض بين الاندماج الرأسمالي العالمي والاستقلال التنموي الوطني بدأ ينعكس اليوم على المركز نفسه؛ إذ تعاني الولايات المتحدة من الأعراض ذاتها التي فرضتها سابقاً على “الجنوب العالمي” من تفكك البنى الاجتماعية، وهشاشة الخدمات العامة، وتركز الثروة بيد قلة مع إفقار واسع وتآكل الضمان الاجتماعي، وانعدام الأفق السياسي الفعّال أمام الطبقات الدنيا من المجتمع.

تحاول هذه الدراسة، تحليل مصير الليبرالية الأمريكية في ضوء هذه التحولات، بالاستناد إلى جملة من التحليلات والمواد الفكرية والسياسية الصادرة خلال السنوات الأخيرة، مستشهدة بالأحداث والتطورات والتصريحات، مستعرضة جذور الأزمة الداخلية وانعكاساتها على الدور الدولي الأمريكي، وآليات التكيف الممكنة، والسيناريوهات المستقبلية المحتملة.

المحور الأول: التحديات البنيوية والسياسية أمام الليبرالية الأمريكية

  1. تفكك العقد الاجتماعي وتآكل الثقة في المؤسسات:

شهد المجتمع الأمريكي منذ السبعينيات تحولات اقتصادية أدت إلى خلخلة الأسس التي قامت عليها الليبرالية بوصفها عقداً اجتماعياً يربط بين الحرية الفردية والعدالة الاقتصادية. تشير الإحصاءات إلى أن متوسط الدخل الحقيقي للأسر الأمريكية التي لا تحمل شهادات ثانوية انخفض بنسبة 20٪ بين عامي 1974 و2015، فيما انخفض دخل الحاصلين على الثانوية فقط بنسبة 24٪. في المقابل، ازدادت دخول الحاصلين على الشهادات العليا بنسبة كبيرة ([1]).

هذا التفاوت دفع قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى للشعور بأن النظام الليبرالي “مزور”، كما وصفه عالما السياسة كولجان وكيوهان([2])، وأنه بات أداة للنخبة وليس للناس، من جهة أخرى وثّق روبرت بوتنام ومارجريت وير([3]) كيف أدى الفصل الطبقي المكاني إلى خلق “عوالم اجتماعية منفصلة”؛ إذ لم يعد الأثرياء يتشاركون مع الفقراء في المدارس أو الخدمات أو الفضاءات العامة، مما تسبب في تآكل التضامن الوطني، وهو ما يضرب جوهر الليبرالية كفكرة جامعة.

  1. صعود الشعبوية بوصفها تمرداً على الليبرالية:

جاء صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة ردَّ فعل مباشر على الإحساس الشعبي بالتهميش والخذلان من قبل المؤسسة الليبرالية التقليدية، لم يأتِ ترامب من فراغ، بل استثمر في شعور ملايين الأمريكيين بأن النخب خذلتهم، وقد وصف ترامب بلده في قمة مجموعة السبع في كندا (يونيو 2018) بأنها – أي أمريكا – مجرد “حصالة نقود يسرقها الآخرون”، في خطاب يعكس رفضه العلني للمبدأ الليبرالي الكلاسيكي القائم على التعاون والمؤسسات المتعددة الأطراف (رايلي، مصدر سابق)، وهو المبدأ الذي وفر للولايات المتحدة الأمريكية نفوذاً ناعماً في المجتمع الدولي عبر هذه المؤسسات.

ويوازي صعود ترامب ظواهر مشابهة في الغرب، مثل البريكست (اتفاقية انسحاب المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا الشمالية من الاتحاد الأوروبي والمجموعة الأوروبية للطاقة الذرية 2020م)، وصعود الأحزاب اليمينية في إيطاليا وألمانيا، واحتجاجات “السترات الصفراء” اليسارية في فرنسا.

هذه الوقائع، عكست أزمة أوسع في “الليبرالية الغربية” كما يصفها “إدوارد لوس”، كبير كتاب العمود في صحيفة فاينانشال تايمز ومؤلف كتاب ” تراجع الليبرالية الغربية”، ففي عام 2017م، أشار إلى أن العالم خسر 25 (ديمقراطية) مقارنة بعام 2000، وأن الشعبوية السلطوية أصبحت أكثر جاذبية للجمهور.

وذكّر بنظرية “نهاية التاريخ” التي طرحها فرانسيس فوكوياما بعد الحرب الباردة التي افترضت تعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية في جميع أنحاء العالم، كالشكل النهائي للحكم البشري، وقال: إن هذه النظرية قد قُضي عليها بسبب تشويه سمعة الديمقراطية من خلال الخطوات غير الليبرالية التي اتخذها الغرب في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مثل القيود على الحقوق، وفتح غوانتانامو، وغزو العراق بحجج واهية، والانهيار المالي الأطلسي عام ٢٠٠٨م، بينما كانت الصين لا تزال تنمو، أما الحدث الثالث فكان انتخاب دونالد ترامب ([4]).

  1. التأثير المعكوس للعولمة والتقدم التكنولوجي:

مثّلت العولمة في العقود الماضية أحد أعمدة الخطاب الليبرالي، إلا أن نتائجها على المجتمعات الغربية كانت عكسية، فبينما جنت الصين والهند ثمار الانفتاح الاقتصادي والتحديث التقني، والمنافسة في السوق العالمية، عانى الأمريكيون من تسريح الصناعات، واستبدال الوظائف بالأتمتة، وانهيار الضمانات الاجتماعية، فالتطور التكنلوجي في الغرب يقابله من جهة اخرى تسريح العمال الذين تعمل الآلآت الذكية بدلاً عنهم.

وقد أشار تقرير “كارثيك رامانا” إلى أن هذه التطورات وضعت الغرب في معادلة قاسية بين حقين متضادين: حق نشر التقدم التكنولوجي والعولمة التي أنقذت الملايين من الفقر خارج الغرب، وحق الطبقة العاملة الغربية في العيش الكريم.

 وقد أدّت هذه الأزمة إلى طرح مقترحات، مثل “الدخل الأساسي الشامل” الممول من الضرائب المفروضة على النخب، لكنها في جوهرها تعكس فشل الليبرالية في تحقيق توازن بين الابتكار والعدالة، ففكرة عيش الناس -ناهيك عن الازدهار- على المدفوعات العامة، تعني بأن المجتمع لم يعد ليبرالياً من الناحية الاقتصادية، ويصبح الناس مدينين للدولة ودافعي الضرائب([5]).

  1. انسحاب النخب من الالتزام الليبرالي:

أحد الجوانب المهمة في تحليل الأزمة الليبرالية هو تحول النخب السياسية والاقتصادية من دور الحَكم الأخلاقي-التي كانت تمارسه جزئياً او تدعيه ظاهرياً- إلى دور المستفيد الأناني الفج، ويقارن رامانا بين جيل ما بعد الحرب العالمية مثل (تاتشر وكارتر) الذي سلك سلوكاً معتدلاً بعد ترك المنصب، وبين جيل التسعينيات مثل (كلينتون وبلير) الذي حول النفوذ السياسي إلى ثروات شخصية.

تزامن هذا “الانحراف النخبوي” مع تركيز السياسات الضريبية والاستثمارية على حماية رأس المال وتوسيع نفوذ الشركات الكبرى، فباتت النخب أكثر انصياعا للشركات التي حظيت بامتيازات غير مسبوقة في الولايات المتحدة، على حساب تمويل التعليم العام والصحة، ما أدى إلى تراجع الطبقة الوسطى، وفتح الباب أمام غضب شعبي عارم، نتج عنه سياسياً رفض لليبرالية، واتجاه الجماهير نحو خيارات يسارية أو يمينية شعبوية فاشية.

  1. أزمات الشرعية والمؤسسات والتمثيل السياسي:

بحسب تقرير حديث لمجموعة الأزمات الدولية ([6]) تحلل فيه اضطرابات حكم إدارة ترامب في أول مائة يوم من توليه السلطة 2025م، فلم تعد الولايات المتحدة قادرة على الادعاء بأنها قائدة النظام الليبرالي العالمي؛ فهي تنسحب من الاتفاقيات، مثل (اتفاق المناخ ومنظمة الصحة العالمية)، وتفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وتهاجم الإعلام، وتقلص تحالفاتها.

هذا الانسحاب لا يعكس فقط تغيّراً في السياسة الخارجية، بل يكشف عن أزمة شرعية داخلية؛ إذ لم تعد المؤسسات الأمريكية، بما فيها الكونغرس والمحكمة العليا وسلطة الإعلام الرابعة تحظى بنفس الثقة أو الاحترام من السلطات التنفيذية، وأصبح الانقسام السياسي أكثر حدة.

المحور الثاني: السياسة الخارجية الأمريكية وانهيار “النظام الليبرالي الدولي”

  1. الهيمنة الليبرالية بين الخطاب والممارسة:

خلال العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ومع خروج الولايات المتحدة الأمريكية – بوصفها الدولة الأقوى في العالم- بُني النظام الدولي على أساس ما يسمى الهيمنة الليبرالية الأمريكية، التي جمعت بين التفوق العسكري والاقتصادي وبين الترويج لخطاب الديمقراطية وحقوق الإنسان والتجارة الحرة.

 غير أن هذا الخطاب كان في كثير من الأحيان قناعاً يخفي تحت سطحه ممارسات واقعية لا تتفق مع المبادئ الليبرالية، وفي المقابل فإن المعسكر الاشتراكي- الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية وحلفائه- لم يبنوا نظاماً دولياً، ولا منظومة اقتصاد اشتراكي عالمي، بل كان تكتلاً “شرقيا”، وهكذا فمنذ البدء، أي: عقب الحرب العالمية الثانية بني النظام العالمي على أساس ليبرالي، ومع ذلك فقد كان المعسكر الاشتراكي بمقام ثقل دولي وخيار سياسي اقتصادي، حال نسبياً دون تغول النظام الليبرالي العالمي وتوحشه، بخلاف ما بات عليه الوضع عقب سقوط المعسكر الاشتراكي.

في تسعينيات القرن الماضي، توسع النظام الليبرالي ليعم العالم، فوصل الذروة، وبدأ التراجع، وقبل ذلك فالولايات المتحدة -وفي ظل الحرب الباردة- تجاوزت المبادئ الليبرالية الحاكمة لسياستها وسياسة النظام العالمي -المُفترض- وبدأ الطابع الإمبريالي للولايات المتحدة يُعبر عن نفسه بتبني واشنطن سياسات رجعية؛ فعلى سبيل المثال دعمت واشنطن أنظمة استبدادية في إيران (الشاه) وكوريا الجنوبية وانقلاب تشيلي (على سلفادور أليندي)، وأسهمت في انقلابات أخرى كما في غواتيمالا وكوبا (انقلاب باتيستا) وفيتنام الجنوبية.

وبعد سقوط المعسكر الاشتراكي، شاركت في حروب إمبريالية، مثل غزو العراق وأفغانستان من خارج شرعية المؤسسات الدولية، والتعذيب في سجن أبو غريب الذي يتناقض تماماً مع مفاهيم حقوق الإنسان الليبرالية، هذه الوقائع شواهد تاريخية، تُظهر أن ما يُوصف بالنظام الليبرالي لم يكن دائماً ملتزماً بالليبرالية، وهذه السياسة الإمبريالية الصارخة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م ضمن مفهوم ” مكافحة الإرهاب”، مؤشر على انقلاب تام على الليبرالية الكلاسيكية، ومثلت هذه الأحداث تصدعات لليبرالية كأيديولوجية أمريكية وكقيم ومؤسسات ناظمه للمجتمع الدولي.

  1. ترامب وتفكيك المشروع من الداخل:

مع صعود دونالد ترامب إلى الحكم في المدة الأولى يناير 2017م، ثم عودته في المدة الثانية يناير2025م، دخلت السياسة الخارجية الأمريكية مرحلة نوعية جديدة من دهس ما تبقى من تقاليد ليبرالية؛ فقد شكّلت إدارة ترامب قطيعة مع الخطاب الليبرالي الكلاسيكي والالتزامات في إطار المنظمات الدولية متعددة الأطراف والاتفاقيات الجماعية، وهو ما تجلّى في انسحابات متكررة من مؤسسات واتفاقيات كبرى، مثل اتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان، والاتفاق النووي مع إيران، ولم تكتفِ واشنطن بالانسحاب، بل تبنّت سياسة العقوبات الأحادية خارج أطر ما يسمى بـ”الشرعية الدولية”، طالت هذه العقوبات خصوماً تقليديين كإيران وروسيا والصين، وكذلك شركاء اقتصاديين كأوروبا واليابان، في تجاوز مباشر للقواعد الليبرالية التي قامت عليها العلاقات الدولية منذ منتصف القرن العشرين.

هذه السياسة تعني أن الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب تستبعد المعاهدات والتنسيق مع الحلفاء، وفي هذا السلوك ارتداد عن الليبرالية والعولمة وعودة إلى التصورات القومية للمصالح والسيادة.

وقد أفضى هذا السلوك السياسي الأمريكي إلى إضعاف النظام الدولي الليبرالي ذاته، الذي كانت الولايات المتحدة، لعقود رائدته ومبشرة به، والنتيجة هي تآكل “الشرعية” العالمية للقيادة الأمريكية، وتمنح خصوم واشنطن فرصة لتجاوز قواعد النظام العالمي القائم، وخلق بيئة ملائمة لصعود تكتلات بديلة، تتبنى سردية مضادة تعزز التعددية القطبية، فبينما كانت واشنطن لعقود تُقدّم نفسها ضامناً للاستقرار العالمي، باتت اليوم في نظر كثير من الحلفاء، قوة يصعب الوثوق بها، تنسحب عند الضرورة، وتفرض “العقوبات” عند الاختلاف، دون اعتبار للأثر الجماعي أو للمسؤوليات الدولية المشتركة.

  1. انسحاب القيادة الأمريكية: فراغ جيوسياسي لا تعبئة بديلة له:

باتت السياسة الأمريكية تتجه إلى الانغلاق والانكفاء الداخلي، فإدارة ترامب لم تعد ترى نفسها حاملة لمشروع النظام الليبرالي العالمي؛ فقد انسحب ترامب من منظمة الصحة العالمية خلال جائحة كوفيد-19، وفرض عقوبات على موظفي المحكمة الجنائية الدولية، وأوقف تمويل وكالة الأونروا، وانسحب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.

بلغت هذه السياسات ذروتها في قرار إيقاف ترامب عمل ” الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية”([7]) 3
فبراير 2025م، وتعد الوكالة من أبرز القوى الناعمة التي بواسطتها تمارس الولايات المتحدة الأمريكية تأثيراً في سياسة البُلدان المختلفة؛ لنهب ثرواتها وللاستفادة من أصواتها في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المختلفة، ومن أجل التغيير الثقافي وتغريب المجتمعات وتعزيز النزعة الاستهلاكية، فهي أداة أساسية في دعم السياسات الليبرالية الأمريكية وتسويقها عالمياً.

هذا الانسحاب الأمريكي من المنظمات الدولية متعددة الأطراف ومن الاتفاقيات وغيرها، يحدث دون تقديم بديل ليبرالي دولي، ما يخلق فراغاً في القيادة الليبرالية العالمية، ويمنح قوى مثل الصين وروسيا هامشاً أكبر للتأثير؛ فبينما تنكفئ أمريكا، تصوّر الصين نفسها مدافعاً عن “التعددية”، من خارج الليبرالية، وقد بدأت بكين منذ أزمة كورونا، تطرح نفسها راعية للتعاون الدولي، وتقدّم نموذجها التنموي (اشتراكية السوق) بديلاً عن الديمقراطية الليبرالية كأيديولوجية لنظام الأحادية الإمبريالي التي تقوده دول الثالوث أمريكا+كندا، اليابان، الاتحاد الأوربي + بريطانيا، ويَظهر “البريكس” في هذا الصدد تكتلاً دولياً انسلاخياً عن النظام الدولي الراهن، نحو نظام عالمي متعدد الأقطاب.

  1. أسطورة النظام الليبرالي: تفكيك الرؤية من جذورها:

يرى الباحث مايكل بارنيت([8]) أن الحديث عن “نظام دولي ليبرالي” أنه نوع من الأسطورة السياسية التي اختلقها الغرب بعد الحرب الباردة لتبرير تفوقه؛ فالمؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة لم تُبنَ على مبادئ المساواة أو التعددية الحقيقية، بل على مبدأ تفوق الغرب وتثبيت مصالحه([9]).

ويُضيف بارنيت أنه حتى في لحظات “ذروة الليبرالية” في التسعينيات أي بعد سقوط المعسكر الاشتراكي، أن مفاهيم وسياسات: السيادة الوطنية، والهيمنة الغربية، وتفوق الشركات متعددة الجنسيات، كانت هي المحددات الفعلية للنظام العالمي، وليس القيم الليبرالية مثل الحرية والعدالة والمساواة، بل إن الدول غير الليبرالية مثل (روسيا والصين) أظهرت مرونة أكبر في التعامل مع هذا النظام عندما وافق مصالحها، وأصبحت أكثر استعداداً الآن لتشكيل قواعد جديدة وفق منظورها الخاص.

  1. إعادة تعريف التحالفات:

أحد التحولات الجوهرية التي أظهرتها إدارة ترامب هو إعادة تعريف طبيعة التحالفات الدولية، فبينما كانت الإدارات السابقة ترى التحالفات مثل (الناتو) جزءاً من البنية الأمنية والسياسية للعالم الليبرالي، عدّها ترامب مجرد صفقات تجارية يجب أن تدفع ثمنها الدول الأخرى.

وهذا ما حدث عندما طالب ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية بزيادة مساهماتها في تمويل التواجد العسكري الأمريكي على أراضيها، وهدد مراراً بالانسحاب منها إذا لم تستجب.

وقد أدت هذه السياسة إلى هشاشة غير مسبوقة في الثقة الأمريكية-الأوروبية؛ نتيجة لذلك، تصاعدت داخل العواصم الأوروبية دعوات لما يمكن تسميته بـ”الاستقلال الاستراتيجي”، وهي مقاربة طرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتقوم على بناء قدرات أمنية أوروبية ذاتية دون الاعتماد الكامل على المظلة الأمريكية([10])، فالمظلة لم تعد – في المنظور الأوروبي – ضامناً ثابتاً، بل أصبحت “حالة غير مضمونة” في ظل تقلبات السياسة الأمريكية، وقد أظهرت الأزمة الأوكرانية هذا التصدع بشكل جلي، حين بدت إدارة ترامب مترددة، مركّزة على معادلة الكلفة والعائد، بينما كانت دول الاتحاد الأوروبي تنظر إلى دعم كييف باعتباره ضرورة وجودية.

المحور الثالث: آليات وإمكانات إعادة التكيّف ومقاومة السقوط

رغم عمق الأزمة التي تواجهها الليبرالية الأمريكية، لا تزال هناك محاولات فكرية وسياسية جادّة لطرح حلول تُمكّنها من الصمود والتكيّف مع التحولات البنيوية في الداخل والخارج، هذه المحاولات وإن بدت محدودة من حيث أثرها الواقعي تعبّر عن إدراك متزايد لدى بعض النخب الفكرية الأمريكية بأن مواصلة إنكار أزمة الليبرالية قد تقود إلى الانهيار التام، ويمكن تحليل هذه المحاولات على مستويين متكاملين، داخليًا: من خلال استراتيجيات استعادة الشرعية الاجتماعية والسياسية، وخارجياً: عبر جهود واشنطن لإعادة ترميم دورها ضمن النظام العالمي الليبرالي.

أولاً: على الصعيد الداخلي

  1. إعادة بناء العقد الاجتماعي:

تُعدّ مسألة إعادة ترميم العقد الاجتماعي المنهار بين الدولة والمواطنين من بين أبرز مداخل التكيف الليبرالي المطروحة. دعا مفكرون ليبراليون مثل كولجان وكيوهان إلى الربط بين العولمة والتجارة الحرة من جهة، والسياسات المحلية العادلة من جهة أخرى، تشمل هذه السياسات: اعتماد ضرائب تصاعدية تُعيد توزيع الثروة، والاستثمار في التعليم العام والرعاية الصحية، وحماية الصناعات المحلية من المنافسة غير المتكافئة، ويُنظر إلى أن الاعتراف بمكاسب التكنولوجيا والعولمة لم يعد كافياً، ما لم يقترن بإعادة توجيه الموارد نحو الطبقات المتضررة، التي تُعدّ قاعدة الاستقرار السياسي لأي نظام ديمقراطي ليبرالي.

  1. استعادة السردية الوطنية:

ترى الأطروحات الليبرالية النقدية، أن الليبرالية الأمريكية فقدت قدرتها على التعبير عن هوية وطنية جامعة، لصالح سردية السوق الفردية والاستهلاكية، ولإعادة ترميم هذه الهوية، يُقترح تبنّي سردية أمريكية تستند إلى التضامن الداخلي بدلاً من الاستعلاء العالمي، في مواجهة خطاب “أمريكا أولاً” الشعبوي الذي يُقصي الحلفاء والخصوم على السواء.

 وتشير الأدبيات الليبرالية النقدية إلى أن الخطاب التقليدي الليبرالي فقد جاذبيته؛ لأنه يُخاطب “الفرد المستهلك” لا “المواطن الشريك في المصير”، والسردية الجديدة المقترحة يجب أن تتجاوز مفاهيم مثل “نهاية التاريخ”، وتركّز على التحديات الحقيقية، مثل الفقر، وانعدام المساواة، والمناخ، وتعدد الهويات الاجتماعية والثقافية.

  1. استعادة وظائف الدولة:

إحدى أبرز الانتقادات الموجهة لليبرالية النيوليبرالية تتعلق بتجريد الدولة من دورها الاجتماعي لصالح آليات السوق. تُقترح عودة الدولة إلى مركز الفعل السياسي بوصفها منظماً عادلاً، لا مجرد موفر خدمات، تشمل المهام المقترحة، حماية الفئات الهشة، تأمين التقاعد والرعاية الصحية، دعم الاستثمار العام، وضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، ويشير هذا الطرح إلى ضرورة العودة إلى نمط الليبرالية الكينزية ([11]) التي كانت أكثر قدرة على احتواء تداعيات التفاوتات الطبقية، قبل أن يجري تقويضها بسياسات “ميلتون فريدمان” النيوليبرالية، التي أضعفت الانتماء الوطني وفتحت الباب أمام النزعات الشعبوية والانعزالية.

  1. إصلاح المؤسسات التمثيلية:

تُعدّ أزمة التمثيل السياسي من العوامل الجوهرية في فقدان الليبرالية شرعيتها؛ فقد أصبحت المؤسسات المنتخبة تحت هيمنة المال السياسي وجماعات الضغط، ما أضعف ثقة المواطنين في العملية الديمقراطية، ومن أجل استعادة هذه الثقة، تُطرح مقترحات لتقنين تمويل الحملات الانتخابية وكبح جماح جماعات الضغط، وتفعيل آليات المساءلة والرقابة الديمقراطية.

 كما يُقترح بناء تحالفات اجتماعية-سياسية أوسع تتجاوز النخب التقليدية، وتضم النقابات، وحركات العدالة البيئية والاجتماعية، والأقليات العرقية، والجيل الرقمي الشبابي، بوصفها قاعدة شعبية جديدة لليبرالية المتجددة، في مواجهة النزعة القومية البيضاء المحافظة.

ثانياً: على الصعيد الخارجي:

بالتوازي مع هذه المقاربات الداخلية، تبذل الولايات المتحدة جهوداً متعددة الأوجه لإعادة ترميم موقعها في النظام العالمي بوصفها مركز النظام الليبرالي، ولكن وفق معادلة أكثر حذراً وتكيفاً مع التحولات الجيوسياسية العالمية، لا سيما في ظل صعود الصين، وتنامي المحور الأوراسي، وتراجع ثقة الحلفاء في القيادة الأمريكية في ظل فترة ترامب الأولى 2017-2021م.

 بدأت محاولات الترميم هذه في مدة رئاسة بايدن 2021م-2025م، إلا أن عودة ترامب لمدة ثانية في العام 2025م، أوقفت محاولات الترميم التي شرعت بها إدارة بايدن، ومن المحتمل أن تعود إليها أي إدارة ديمقراطية جديدة، وسيكون عليها محاولة ترميم ما أفسده ترامب في فترته الجارية.

أ. ترميم المؤسسات والتحالفات الدولية:

عملت إدارة بايدن على استعادة حضورها في المؤسسات الدولية عن طريق العودة إلى اتفاق باريس للمناخ، ومنظمة الصحة العالمية، وتعزيز دور الناتو في مواجهة روسيا، ما عكس سعياً لإعادة تشكيل “الغرب الليبرالي” الموحد، كما دعمت تحالفات جديدة في المحيطين الهندي والهادئ في محاولة لاحتواء النفوذ الصيني.

ج. توظيف القوة الناعمة وسردية الحقوق

حاولت إدارة بايدن وقبلها إدارة أوباما، الإبقاء على تفوقها في أدوات القوة الناعمة، بواسطة الإعلام العالمي، وشبكات المجتمع المدني، والسرديات الأخلاقية، التي تُستخدم لتقويض مشروعية الخصوم، وتبرير التدخلات السياسية والاقتصادية، كما في الحرب الروسية الأوكرانية، أو في الصراع مع الصين حول تايوان، أو في مواقفها تجاه حل الملف النووي الإيراني.

د. تحالف رأس المال العالمي والتكنولوجيا

لا يزال النفوذ الأمريكي الاقتصادي قائماً على تحالف غير معلن بين الدولة ومؤسسات التكنولوجيا العملاقة مثل (غوغل، أمازون، مايكروسوفت، بلاك روك…)، ما يمنح واشنطن قدرة على إعادة إنتاج الهيمنة بوسائل رقمية ومالية مرنة، حتى في حال تراجع الهيمنة العسكرية المباشرة.

ملاحظة نقدية:

تكشف هذه الآليات المطبقة في مدة بايدن عن قدرة نسبية على التكيّف وإدارة التراجع، لكنها لا تضمن النجاة الكاملة للمشروع الليبرالي، ما لم تقترن بتحولات بنيوية في نموذج توزيع السلطة والثروة. إن نجاح هذه الاستراتيجيات يظل مرهوناً بقدرة الولايات المتحدة على استعادة الثقة الشعبية داخلياً، وإقناع الحلفاء دولياً، في ظل منافسة حادة من نظم بديلة، وفي ذات الوقت تقدّم بدائل تكنولوجية وتنموية وأمنية أكثر جاذبية للعديد من دول الجنوب العالمي.

ويُمكن التمييز في سياق أزمة الليبرالية الأمريكية بين مستويين متداخلين: مستوى ذاتي ظرفي، وآخر موضوعي بنيوي؛ ففي حين تبدو إمكانية تجاوز الانعكاسات السلبية للحقبة الترامبية- السابقة والراهنة المستمرة-، وما رافقها ويرافقها من سياسات شعبوية صدامية تتعارض مع القيم الليبرالية التقليدية، ممكنة عن طريق تصحيح المسار السياسي واستعادة التوازن المؤسساتي؛ إلا أن معالجة الأزمة البنيوية الأعمق لليبرالية، والممتدة منذ عقود، تظل أكثر تعقيداً.

 وتتمثل هذه الأزمة في التآكل الداخلي لعقدها الاجتماعي، وتراجع قدرتها على قيادة النظام العالمي بوصفها مركزاً إمبراطورياً منفرداً، من هذا المنظور، فإن احتمالات استعادة الليبرالية لعافيتها تبدو محدودة ضمن بنية النظام الأحادي القطبية، لكنها قد تكتسب فرصاً جديدة – وإن مشروطة – في سياق عالم متعدد الأقطاب، تصبح فيه الولايات المتحدة أحد الأقطاب الكبرى، لا مركزاً مهيمناً للنظام العالمي.

  المحور الرابع: النتائج والسيناريوهات المحتملة لأزمة الليبرالية الأمريكية

تمثل أزمة الليبرالية في الولايات المتحدة نقطة تحوّل تاريخية، تتجاوز حدود السياسة الداخلية؛ لتعكس خللاً بنيوياً في منظومة الهيمنة الليبرالية الغربية بشكل كامل، ومن الصعب الفصل بين الأزمة الليبرالية في الداخل الأمريكي وبين مفاعيلها العالمية؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على نموذجها بوصفها مرجعية ديمقراطية كما قدمت نفسها، ولا قوة مهيمنة على النظام الدولي، بناءً عليه يمكن تمييز مسارين مترابطين لمخرجات الأزمة، الأول: يتعلق بتداعياتها ونتائجها داخل المجتمع الأمريكي، والثاني: يطال موقع الولايات المتحدة في العالم، وتوازنات القوة في النظام الدولي.

أولاً: على الصعيد الأمريكي الداخلي

  1. تفكك العقد الاجتماعي وتآكل الشرعية الديمقراطية:

يُعد التفاوت الاقتصادي المتزايد، والاستقطاب العرقي والسياسي، وانهيار الثقة في المؤسسات الديمقراطية، من أبرز مظاهر أزمة الليبرالية الأمريكية داخلياً، وإذا استمرت هذه العوامل دون إصلاح جذري، فإنها مرشحة لأن تُنتج حالة من الانفجار الاجتماعي أو التفكك السياسي للمجتمع الأمريكي، بما يضع الديمقراطية الأمريكية في حالة ركود.

ويُعد الهجوم على مبنى الكونغرس في 6 يناير 2021م، وما تبعه من ردود فعل متناقضة، مؤشراً واضحاً على اختلال العقد الاجتماعي الوطني وتراجع شرعية العملية الديمقراطية الليبرالية في نظر قطاعات واسعة من الأمريكيين.

  1. تصاعد النزعة الشعبوية كبديل سياسي:

يُتيح فشل النيوليبرالية في الاستجابة لتحديات المواطن العادي، صعود تيارات محافظة شعبوية، تُحمّل النخب والمؤسسات المسؤولية عن الأزمات، وتطرح سرديات بديلة قائمة على الهوية والانغلاق القومي.

ويُجسّد عودة دونالد ترامب إلى السلطة في يناير 2025م على الرغم من الاتهامات الجنائية بحقه، مؤشراً على تجذر النزعة الشعبوية لدى جزء كبير من القاعدة الانتخابية، ورفضها للنظام الليبرالي التقليدي بمؤسساته وإعلامه ونخبه.

  1. احتمالات التكيّف عبر ليبرالية معدّلة:

في المقابل، يُمكن أن تنجح بعض النخب الليبرالية الإصلاحية في إنتاج صيغة جديدة أكثر عدالة وواقعية، من خلال استعادة وظائف الدولة، وإصلاح النظام الانتخابي، وإعادة بناء سردية وطنية شاملة.

وقد شكّلت خطة “إعادة البناء بشكل أفضل” التي طرحها جو بايدن في عام 2021م، على رغم تقليصها لاحقاً، مؤشراً على اتجاه نحو ليبرالية اجتماعية جديدة، تهدف إلى تقليص الفجوة الطبقية وزيادة تدخل الدولة في التعليم والرعاية والصحة والبنية التحتية.

  1. خطر التصدع البنيوي:

في حال تعمقت الأزمات الأمريكية دون حلول، تبقى احتمالات التصدع قائمة، ولو على المدى المتوسط، سواء عن طريق موجات احتجاج واسعة، أم عن طريق طرح مشاريع انفصالية من بعض الولايات.

وقد عبّرت بعض النخب المحلية عن هذا التوجه، كما في تصريح “جريج أبوت”، حاكم ولاية تكساس 2025م بشأن “حق تكساس في الدفاع عن سيادتها” ومقترحات انفصالية، واستطلاعات تؤيد الانفصال كما في كاليفورنيا، مما يدل على أن فكرة تفكك الاتحاد لم تعد من المحرمات السياسية كما كانت في الماضي.

ثانياً: على الصعيد العالمي

  1. تراجع القدرة على تصدير النموذج الليبرالي:

لقد أضعفت الأزمات الداخلية من قدرة الولايات المتحدة على تقديم نفسها مرجعية أخلاقية وسياسية للعالم؛ فقد أدى فشلها في احتواء الانقسامات الداخلية، إلى إضعاف سرديتها في الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، خصوصاً في ظل ازدواجية معاييرها في القضايا الدولية: أوكرانيا مقارنة بفلسطين.

  1. تصاعد التعددية القطبية:

يترافق التراجع الداخلي مع صعود قوى دولية بديلة، مثل الصين وروسيا، وتكتلات دولية وإقليمية، كالبريكس ومنظمة شنغهاي، وصمود محور المقاومة العربية-الإسلامية، ما يضع الليبرالية الغربية في مواجهة منافسين يقدمون نماذج تنموية وأمنية مختلفة، وفي ظل هذا التحول، يُعاد رسم ميزان القوى العالمي بعيداً عن الهيمنة الأحادية.

  1. محاولات واشنطن لتعديل دورها العالمي:

تُحاول الولايات المتحدة التكيف مع التحولات الدولية نحو التعددية القطبية عبر تبني استراتيجيات مرنة، مثل التركيز على الشراكات الاستراتيجية في المحيط الهادئ، وتوظيف القوة الناعمة، والتحالف مع التكنولوجيا المالية والعسكرية، إلا أن نجاح هذه المحاولات يتوقف على مدى قدرة واشنطن على إقناع حلفائها بجدوى استمرار الانضواء تحت قيادتها، خصوصاً مع التصدعات العميقة في التحالفات الأمريكية الغربية اقتصاديا وعسكريا.

  1. احتمال تحوّل الولايات المتحدة إلى قطب دولي لا إمبراطورية:

في حال لم تنجح واشنطن في استعادة مكانتها الإمبراطورية، قد تتجه نحو قبول واقع عالمي جديد، تكون فيه قطباً مهماً بين أقطاب متعددة، مع تراجع دورها قائداً أوحد للنظام الدولي، هذا السيناريو، وإن كان يُمثّل تراجعاً عن طموحاتها السابقة، إلا أنه قد يكون أحد سبل إنقاذ الليبرالية الأمريكية نفسها من الانهيار، بتحويلها إلى مشروع وطني لا إمبراطورية عالمية.

الخاتمة

تُظهر أزمة الليبرالية في الولايات المتحدة، كما تناولتها هذه الدراسة، ملامح انحدار منظومة فكرية وسياسية وتنظيمية كانت لعقود تُقدَّم بوصفها النموذج النهائي للتنظيم السياسي والاجتماعي العالمي.

 إلا أن تعمّق التناقضات البنيوية داخل هذا النموذج الإمبريالي، سواء على مستوى التمثيل الديمقراطي، أم العدالة الاجتماعية، أم تآكل العقد الاجتماعي، جعل من الصعب الإبقاء على صيغته النيوليبرالية الحالية دون مراجعة جذرية.

فعلى الصعيد الأمريكي الداخلي، تكشف مؤشرات مثل اقتحام الكونغرس، وصعود النزعات الشعبوية، وتراجع الثقة بالمؤسسات، عن مأزق تاريخي مزدوج: أزمة في الهوية الوطنية، وأزمة في مشروعية الدولة، أما على الصعيد العالمي، فإن تراجع القدرة على تصدير النموذج الليبرالي، مقابل صعود أقطاب عالمية بديلة، يعيد رسم حدود القوة والتأثير، ويضع الولايات المتحدة أمام خيارين: إما التكيف مع عالم متعدد الأقطاب بوصفها قطباً فاعلاً لا مهيمناً، أو الدخول في مواجهات استراتيجية تُسرّع من انحدارها.

[1]  John E. Rielly: “Can President Donald Trump Destroy the Liberal International Order? ” politique-americaine  (02/07/2019)

 https://shs.cairn.info/revue-politique-americaine-2019-1-page-215?lang=en

[2] جيف كولجان (Jeff Colgan): أستاذ في العلاقات الدولية، يشغل منصب مدير “مركز واتسون للشؤون الدولية والعامة” بجامعة براون (Brown University) في الولايات المتحدة. يركز في أبحاثه على النفط والطاقة والسياسة الدولية، وعلى الصراعات الجيوسياسية وتأثير الموارد الطبيعية في السياسة العالمية.

روبرت كيوهان (Robert O. Keohane): أحد أعمدة نظرية العلاقات الدولية الحديثة، وواحد من أبرز المنظّرين في المدرسة النيوليبرالية المؤسسية. وأستاذ فخري في جامعة برينستون (Princeton University) الأميركية.

[3] روبرت بوتنام (Robert D. Putnam) عالم سياسة أميركي بارز، أستاذ في جامعة هارفارد.

مارغريت وير (Margaret Weir) عالمة سياسة أميركية، أستاذة في جامعة براون، عضوة في “مؤسسة القرن” (Century Foundation).

[4] The Global Observatory: “Financial Times Columnist Edward Luce on The Retreat of Western Liberalism”.(November 8, 2017)

https://www.ipinst.org/2017/11/the-retreat-of-western-liberalism#13

[5] Karthik Ramanna:  “Are We Witnessing the Fall of the American Liberal Order?”, premarket (June 9, 2020)

https://www.promarket.org/2020/06/09/are-we-witnessing-the-fall-of-the-american-liberal-order/

  1. مجموعة الأزمات الدولية – عالم في مفترق طرق: الولايات المتحدة، التعددية، وتراجع القيادة الليبرالية،

https://www.crisisgroup.org

[7] تأسست الوكالة عام 1961م؛ بهدف إدارة المساعدات الخارجية الأمريكية أداة ناعمة لتعزيز الهيمنة الأمريكية خلال الحرب الباردة في مواجهة النشاط الاشتراكي، وبعد انتهاء الحرب الباردة، تحولت وظيفة الوكالة إلى تعميم النموذج الليبرالي الأمريكي ومكافحة الفقر، وهي الأداة الناعمة الرئيسة التي بواسطتها تمارس أمريكا دور الإمبراطورية العالمية، وهوَ ما يتطلب منها انفاق موارد مهولة لم يعد الاقتصاد الأمريكي يحتمله.

يؤيد الجمهوريون والمحافظون إغلاق الوكالة، معتبرين أنها تمثل إهداراً للموارد الفيدرالية؛ إذ تُنفق مليارات الدولارات على مشاريع لا تخدم المصالح الأمريكية المباشرة حد تقديرهم. فيما يعارض الديمقراطيون والمؤسسات الدبلوماسية والأمنية إغلاق الوكالة، معتبرين أن ذلك سيضعف القوة الناعمة الأمريكية ويؤثر سلباً في صورتها بوصفها قوة عالمية داعمة للتنمية والديمقراطية بنموذجيهما الليبرالي.

[8] مايكل ن. بارنيت، هو أستاذ الشؤون الدولية والعلوم السياسية في كلية إليوت للشؤون الدولية، جامعة جورج واشنطن .

[9] The Global: “”The End of a Liberal International Order That Never Existed”,(April 16, 2019)

https://theglobal.blog/2019/04/16/the-end-of-a-liberal-international-order-that-never-existed/

[10] فرانس 24: ” ماكرون يحذر من “موت أوروبا” ويحث قادتها على وضع استراتيجية دفاعية “ذات مصداقية”، (25/04/2024)

متوافر على الرابط: https://www.france24.com/ar

[11] بدأت السياسة الكينزية بالانتشار في ثلاثينيات القرن العشرين، خصوصاً بعد الكساد الكبير عام 1929، إذ قدم الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز تصوراً جديداً يقوم على تدخل الدولة النشط في الاقتصاد، لضمان الاستقرار والنمو، ركزت هذه السياسة على زيادة الإنفاق الحكومي لتحفيز الطلب، وتوسيع برامج الرعاية الاجتماعية، وتوظيف الدولة فاعلاً اقتصاديًا لتقليص البطالة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

أما سياسة فريدمان أو ما يُعرف أحياناً بالمدرسة النيوليبرالية، فقد بدأت في السبعينيات، وبرزت بوضوح مع صعود مارغريت تاتشر في بريطانيا (1979م) ورونالد ريغان في أمريكا (1981م)، دعت هذه السياسة، التي طورها الاقتصادي ميلتون فريدمان، إلى تقليص دور الدولة، تحرير الأسواق، خفض الضرائب، خصخصة المؤسسات العامة، وتقليص الرعاية الاجتماعية إلى الحد الأدنى، انطلاقاً من أن السوق الحرة أكثر كفاءة في تخصيص الموارد وتحقيق النمو.

كاتب