وحدة تحليل السياسات – تقــدير موقف
في مقابلة تلفزيونية مثيرة للجدل ( 20 يوليو 2025 )، شن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي هجومًا على كل من إثيوبيا ودولة الإمارات العربية المتحدة، متهما إياهما بالوقوف خلف ما وصفه بـ ” المخططات غير المشروعة” للحصول على منفذ بحري على البحر الأحمر، في إشارة مباشرة إلى طموحات أديس أبابا المتزايدة نحو موانئ إريتريا، وعلى رأسها ميناء عصب. وحذّر أفورقي إثيوبيا من الحرب، واصفا طموحها بالوصول إلى البحر الأحمر بأنه “متهور”، قائلا: إذا اعتقدت أنها (إثيوبيا) قادرة على إغراق القوات الإريترية بهجوم بموجات بشرية، فهي مخطئة.
ورغم أن التوترات بين البلدين غير جديدة إلا أن اللغة الحادة للرئيس الأريتيري، دفعت وسائل الإعلام حينها للحديث عن إمكانية عودة الحرب بين البلدين، برغم اتفاقات السلام، التي أنهت نزاعا طويل الأمد، وأفضت إلى الاعتراف الأثيوبي باستقلال اريتريا، والقبول بالوضع الجيوسياسي الجديد لأثيوبيا كدولة حبيسة.
ومنذ استقلال إريتريا في عام 1993، وخسارة أثيوبيا منفذها البحري، ظل الحنين إلى البحر عنصراً مؤثراً في سياسات أديس أبابا، وإن بقي لفترة طويلة متواريًا عن الأنظار..
خلفية:
تنبع رغبة أثيوبيا في الوصول البحري دون عوائق من طموحاتها كقوة إقليمية، حيث تعتبر أن الوصول المباشر إلى البحر الأحمر أمر حاسم للنمو الاقتصادي والاستقلال الذاتي الاستراتيجي.
ففي نوفمبر 2023، كشف الرئيس آبي أحمد الحاصل على جائزة نوبل للسلام في خطاب أمام البرلمان الأثيوبي أن الوصول إلى البحر هو محور طموحات بلاده التي لا ينبغي ترك الأجيال القادمة للدخول في الصراع من أجلها، وأن هذا الطموح يمكن معالجته من خلال مناقشة خيارات الاستثمار والأسهم سواء عبر الشراء أو التأجير أو أي ترتيب متبادل يمكن الاتفاق عليه، مع أي دولة واقعة على البحر الأحمر.
وفي فبراير 2024 أقدمت أثيوبيا على افتعال توتر في منطقة القرن الإفريقي، من خلال توقيعها اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال. قضى الاتفاق حينها أن تمنح أرض الصومال أثيوبيا (الدولة الحبيسة) منفذًا على البحر الأحمر بطول 20 كيلو مترًا، يضم ميناء بربرة، وبناء قاعدة عسكرية لمدة 50 عامًا، وذلك مقابل أن تعترف أديس أبابا رسميًّا بأرض الصومال كجمهورية مستقلة. وقد أفضى الاتفاق إلى توتر في علاقة الصومال بأثيوبيا.
إلا أن تركيا أمكن لها احتواء التصعيد، عندما رعت اتفاقا بين أديس أبابا ومقديشو (ديسمبر 2024)، الذي منح فرصة لكلا البلدين لبدء صفحة جديدة في العلاقات تقوم على السلام والتعاون من جديد. وكانت إريتريا قد استضافت في أكتوبر 2024 قمة ثلاثية مع مصر والصومال عقب إعلان أديس أبابا توقيع مذكرة تفاهم مع إقليم ” أرض الصومال ” التي رفضتها مقديشو.
وعلى الرغم من اشتراك إريتريا مع كل من الصومال وجيبوتي في التحفظ العلني على الأطماع الأثيوبية، فإن إريتريا كانت هي الأكثر تخوفًا بين بلدان المنطقة، نظرًا لكونها الأكثر عرضة لترجمة دوافع الهيمنة الأثيوبية، عبر السيطرة على موانئها كجزء من النظرة التاريخية لإريتريا باعتبارها جزءًا من الإمبراطورية الأثيوبية.
في نهاية يوليو 2024، حظرت إريتريا الخطوط الجوية الأثيوبية من مجالها الجوي، بدءًا من 30 سبتمبر 2024، بدعوى إساءة معاملة الركاب وقضايا التشغيل، المرتبطة بالرحلات الخمس الأسبوعية بين البلدين.
وفي 27 يناير 2025، استضافت أديس أبابا، مؤتمرًا لجماعة (برقيد ني حمدو- لواء الأرض) المعارضة لأسمرة، والتي بدأت نشاطاتها باستهداف الاحتفالات التي تقيمها الحكومة الإريترية في مناطق الشتات الإريتري في الدول الغربية تحديدًا.
السيناريوهات المحتملة لتجدد الحرب
1- سيناريو احتواء الأزمة: وهذا الاحتمال وارد جدا ( متوسط إلى منخفض )، نظرا لأن التصريحات الكلامية من الجانبين ليست جديدة، كما أن الدولتين سبق ودخلتا في نزاع طويل، وفي النهاية لم تحقق أثيوبيا أهدافها، ثم إن لدى أثيوبيا مشكلات داخلية وخارجية قد تحول دون تورطها في نزاع لا تعرف عواقبه، فبالإضافة إلى أزمة إقليم تيغراي، الذي قد تتمكن أرتيريا من تأجيجها مجددا، في حال نشبت الحرب، فإن الأزمة بين أثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى بسبب سد النهضة قد تخلط الأوراق على أديس أبابا، إضافة إلى أن التحرك العسكري من طرف أثيوبيا ليس له مستند قانوني، وستظهر أثيوبيا كطرف معتد، بعكس الحال بالنسبة لأريتريا، لأنها ستخوض حربا مشروعة في إطار الدفاع عن النفس. كذاك فإن الأوضاع الاقتصادية للبلدين لا تشجع على خوض مغامرة الحرب.
2- سيناريو التصعيد بهدف التفاوض: وهذا سيناريو وارد أيضا، وقد يكون الخيار الأمثل ما قبل الحرب، وبخاصة لأثيوبيا لأنها تعيش أزمة وجودية كونها دولة حبيسة فيما طموحاتها الإقليمية عالية جدا، بالإضافة إلى إرثها الإمبراطوري، حيث لا يتصور الساسة في أديس أبابا مستقبلا لبلادهم من دون منفذ بحري. وهذا يعني أن التصعيد لن يتوقف من جانب أديس أبابا، حتى ترضخ أسمرة إما بالقوة العسكرية أو بقوة التفاوض.
وسبق أن تحدث الرئيس الأثيوبي بوضوح أنه لن يترك هذه الأزمة للأجيال، وأنه لا بد من معالجة الموضوع بأي وسيلة بما في ذلك استئجار ميناء في أي دولة مجاورة، وحيث أن المحاولة مع الصومال قد فشلت، فإن أريتريا وساحلها البحري هي الخيار المتاح، وقد تعرض أديس أبابا على أسمرة فكرة استئجار منفذ بحري وتتفاوض معها في سبيل هذا الهدف.
لكن بالنسبة لأريتريا فلن تكون مستعدة للتفاوض، خاصة أنها لا تخشى المواجهة العسكرية مع الطرف الآخر، وقد خاضت مثل هذه المواجهة سابقا وانتصرت، لكن في حال توافرت حوافز اقتصادية مغرية على غرار الاتفاقات التجارية بين البلدين عام 2018، ودخلت دول أخرى على خط الوساطة، واستمرت أثيوبيا في التصعيد والتهديد باستخدام القوة، قد تقبل أسمره بالتفاوض، الذي قد يكون طويل المدى، وقد لا يصل إلى نتيجة مرضية لأي طرف.
3- سيناريو الحرب: رغم التوترات الكامنة، فإن اندلاع حرب شاملة بين إثيوبيا وإريتريا في الوقت الراهن ليس مرجحًا بدرجة عالية، لكن في ظل الفوضى الدولية، ونظرا لعجز المجتمع الدولي عن كبح جماح إسرائيل في حرب الإبادة وتغيير الخرائط بالشرق الأوسط، قد يجد الرئيس الأثيوبي في هذا الوضع حافزا لعمل مماثل في القرن الأفريقي، وقد تمنحه إسرائيل الضوء الأخضر، في إطار العمل على تمكين حلفاء الولايات المتحدة من النفوذ والهيمنة في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، ومواجهة الفاعل اليمني الصاعد وأدائه العسكري غير المسبوق.
الفاعـلين في الصراع:
• الولايات المتحدة الأمريكية: من المتوقع أن تدعم واشنطن أديس أبابا سياسيا، خاصة إذا وقفت إسرائيل إلى جانب أثيوبيا، لكنها قد تعمل على احتواء الصراع من خلال الحلول السلمية خشية من عسكرة البحر الأحمر، وسعيا لجني أي مردود اقتصادي ومالي محتمل من السلام لصالح واشنطن على المدى المنظور. (نهج ترامب في إبرام صفقات).
• الصين: استثمرت الصين بشكل كبير في إريتريا، وهي تتطلع إلى إقامة قاعدة عسكرية فيها، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة أنها قد تعترف بجمهورية أرض الصومال وتقيم قاعدة فيها، ما يهدد الخط البحري وطريق الحزام الصيني، لكن الصين الحذرة من الحروب قد تدفع باتجاه احتواء الصراع أولا، وستعمل على دعم أرتيريا من تحت الطاولة في حال نشبت الحرب فعليا.
سياسيا ومن خلال مجلس الأمن قد تستخدم بكين حق النقض تجاه أية قرارات وعقوبات غربية بحق أسمرة.
• إسرائيل: تحالفها وثيق مع أثيوبيا، ورغبتها كبيرة في دعم دور أكبر لأديس أبابا في المنطقة، وهذا ما يجعلها محفزا للصراع ومستفيدا منه، خاصة بعد تراجع أمريكا أمام الهجمات اليمنية الأخيرة في البحر الأحمر، والتي أدت إلى إغلاق ميناء أم الرشراش/ إيلات، والإعلان عن ذلك بشكل رسمي من جانب الكيان.
• مصر: لأن أثيوبيا تشكل عدوا مشتركا لمصر وإريتريا، فإن علاقة البلدين تاريخية واستراتيجية، ولن تتردد القاهرة عن إعلان دعمها السياسي لأسمرة في حال تعرضت لعدوان من جانب أثيوبيا، لكنها على الأرجح لن تتدخل عسكريا، وأقصى ما ستعمله هو الدعم الخفي وغير المباشر.
• الإمارات: تتمتع أبوظبي بعلاقات فوق جيدة مع كل من أسمرة وأديس وأبابا، وهي من أكبر المستثمرين في الدولتين، وللإمارات مصالح مباشرة خاصة مع أسمرة، ونشرت تقارير إعلامية عن تواجد عسكري غير معلن للإمارات في ميناء عصب، بيد أن الخطاب الأخير للرئيس أفورقي الذي هاجم فيه أثيوبيا والإمارات معًا يشي أن أبو ظبي ستكون منحازة إلى أديس أبابا في أي حرب مقبلة. فأي دراسة موضوعية للسلوك الإماراتي ستصل إلى نتيجة مفادها أن ابوظبي تتحرك في حرب الموانئ في إطار الوكيل، الذي يخدم الأجندة الأمريكية والصهيونية.
• الصومال: تبدو علاقات مقديشو مع أسمرة وأديس أبابا متوترة ومعقدة، فأسمرة متهمة بدعم حركة الشباب، وأديس أبابا كادت أن تعترف بجمهورية أرض الصومال، وهو ما قد يدفع الصومال إلى الحياد، مع ملاحظة أن عاملين قد يؤثران على موقف مقديشو: فالتقارب مع مصر قد يدفع مقديشو للانحياز إلى جانب أسمرة، بينما الحدود المشتركة بين الصومال وأثيوبيا، قد يدفع مقديشو لاتخاذ موقف لصالح أديس أبابا.
اليمن وتقدير الموقف
ليس لليمن حدود مشتركة بين دولتي الصراع، لكن تأثير أية مواجهة عسكرية مع تدخل فاعلين آخرين ستلقي بظلالها على اليمن من خلال ثلاثة أبعاد رئيسة:
الأول: الموقف المبدئي في مواجهة إسرائيل، فما دامت إسرائيل داعمة لأي طرف، لا يمكن لليمن إلا أن ينحاز إلى الطرف المعادي لإسرائيل، وإريتريا تمثل هذا الطرف حاليا.
الثاني: خطر الصراع على المنطقة وعلى نفوذ اليمن ومكاسبه الأخيرة في معركة البحر الأحمر، وربما قد يدفع الأمريكي والإسرائيلي نحو التورط في المواجهة مجددا بهدف إضعاف اليمن وكبح جماحه كقوة صاعدة إقليميا، ما يعني أن اليمن عليه الحذر من الانخراط غير المدروس في أي عمل عسكري يشوبه الغموض.
الثالث: القوات المدعومة إماراتيا من المخا إلى باب المندب في الساحل الغربي لليمن، أي تحرك لهذه القوات سيكون على قوات صنعاء مواجهتها بشكل مباشر، وقد تكون هي الفخ الذي يجب الحذر منه. مع ملاحظة أن هذه القوات قد تتقاطع مع القوة البحرية اليمنية في هدف مشترك وإن لغايات مختلفة.
وبشكل عام فإن من مصلحة اليمن من الناحية الاستراتيجية أن تستغل الفرصة لتعزيز العلاقات مع أريتريا، واستثمار التقارب المصري مع إريتريا ليشمل اليمن والصومال، وسيعزز هذا التحالف من فرصة تعزيز العلاقة بالصين أيضا. ومن شان هذا التقارب دعم الموقف الإريتري، الذي قد يؤدي إلى حالة تعيد فيها إثيوبيا النظر في علاقاتها مع إسرائيل.
وبالنسبة لأثيوبيا، فهي دولة وازنة إقليميا في شرق أفريقيا والاتحاد الأفريقي، ولا يمكن للعرب تجاهل دورها ومكانتها، وإذا كان لا بد من تفهم حاجتها الملحة إلى منفذ عـلى البحر الأحمر، فإن على أديس بابا أن تفهم هي الأخرى أن الحرب ليست في صالح المنطقة، التي لا تحتمل مواجهات أخرى في ممر يعد شريان اقتصادي للعالم أجمع.

