‏سوريا بين مطرقة التحالفات وسندان الانقسام: اتفاق 10 آذار في  اختبار البقاء

صورة واتساب بتاريخ 2025-08-31 في 10.32.01_d794aec4

وائل المولى – كاتب وصحفي

‏‏تعيش الساحة السورية مرحلة جديدة من الترقّب المشوب بالقلق، مع عودة اتفاق 10 آذار/مارس إلى الواجهة كعنوان لتوازن هشّ بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”، وسط ضغوط تركية، ورعاية أميركية، وتحركات إسرائيلية صامتة، وتحذيرات أممية من انزلاق  البلاد إلى فوضى تشبه المشهد الليبي.

‏‏ورغم التقدّم الشكلي الذي تحقق بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 7 تشرين الأول، والذي رحّبت به فرنسا واعتبرته “خطوة إيجابية في سبيل التهدئة وحماية المدنيين”، إلا أنّ مؤشرات الأرض لا تدعو إلى التفاؤل. فالتصريحات المتبادلة بين الحكومة الانتقالية السورية و”مجلس سوريا الديمقراطية” تكشف عن انعدام الثقة واستمرار التباينات الجوهرية حول الصلاحيات، وشكل الاندماج، ومستقبل الإدارة الذاتية في شمال البلاد.

اتفاق هشّ في مهبّ الرياح

‏‏ترى دمشق في الاتفاق فرصة لإعادة بسط سلطتها على المناطق الشمالية ضمن إطار وطني موحّد، بينما تعتبره “قسد” ضمانة سياسية لتمثيلها وحقوقها الإدارية. غير أنّ تنفيذ البنود ما زال متعثراً، إذ يتهم “مجلس سوريا الديمقراطية” الحكومة بالمماطلة ومحاولة فرض شروط مركزية، بينما تؤكد دمشق أن “قسد تمضي ببطء متعمّد يعكس ضغوطاً خارجية”، محذّرة من أنّ “أي تراجع عن الاندماج سيُفسَّر كخطوة انفصالية”.

‏في هذا السياق، قال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني خلال مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التركي إن “أي انقسام في سوريا اليوم لم يعد مقبولاً”، مشيراً إلى أن الاجتماع الأخير في دمشق، الذي ضمّ ممثلين عن الحكومة و”قسد” برعاية أميركية، “كان يهدف إلى إعادة إحياء اتفاق 10 آذار”، لكنه أقرّ بأنّ الاتفاق “ما زال حبراً على ورق”.

‏أنقرة: دعم مشروط ومخاوف انتخابية

‏من جانبها، تتعامل أنقرة مع الملف بواقعية حذرة. فبحسب بعض الصحف العربية، لا يبدو أن تركيا مستعدة لتقديم دعم عسكري مباشر للحكومة الانتقالية السورية في حال اندلاع مواجهة مع “قسد”، خشية انهيار التفاهمات الهشّة مع حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان.

هذه المعادلة تجعل أنقرة حبيسة توازن دقيق بين دعم الحكومة السورية في مواجهة القوى الكردية، وبين حماية مسارها الداخلي من أي تصعيد كردي محتمل.

‏‏وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أوضح بجلاء أنّ “العناصر التي تهدد أمن سوريا تهدد أمن تركيا كذلك”، داعياً إلى “إلزام قوات سوريا الديمقراطية بتنفيذ اتفاق 10 آذار وإخراجها تدريجياً من المعادلة العسكرية”، مشدداً على أنّ “عدم الاستقرار في السويداء قد ينتقل إلى مناطق أخرى، ولا نريد استنساخ مشكلتها في الجنوب”.

‏أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فكرّر موقفه قائلاً: “على قوات سوريا الديمقراطية الوفاء بوعدها وإكمال اندماجها مع المؤسسات السورية”، في إشارة واضحة إلى أن أنقرة ما زالت تراهن على تسوية سورية داخلية تحفظ أمن حدودها وتمنع ولادة كيان كردي مستقل.

‏الولايات المتحدة: رعاية الهدوء دون التورّط

‏في المقابل، تلعب واشنطن دور الراعي الصامت للاتفاق. فقد أكد المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس براك أنّ زيارته إلى الحسكة جاءت “لتسهيل ومتابعة تنفيذ اتفاق 10 آذار”، مشدداً على أنّ الاتفاق “بالغ الأهمية لاستقرار سوريا وأمنها، ولمصالح تركيا والولايات المتحدة على حد سواء”. ونفى براك أي شبهة تتعلق بانتهاك السيادة التركية، موضحاً أنّ “مهمته تتركّز على تعزيز آليات التعاون للحد من التهديدات العابرة للحدود ودعم إعادة الإعمار والسلام”.

‏الولايات المتحدة، التي تدرك ضعف التفاهم بين دمشق و”قسد”، تبدو حريصة على إبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع الطرفين، لتجنّب اندلاع حرب جديدة قد تطيح بكل ما تبقّى من ترتيبات أمنية في شمال وشرق البلاد.

إسرائيل تراقب وتستثمر

‏‏لكنّ الطرف الأكثر استفادة من هذا المشهد المربك، بحسب المراقبين، هو إسرائيل. فتل أبيب “لم تضِع فرصة

التدخل في السويداء”، ولن تتردد في دعم “قسد” لتعزيز نفوذها في الساحة السورية. وتشير المصادر إلى أنّ إسرائيل “حصلت من دمشق  على تفاهمات كافية من دون توقيع أي اتفاق رسمي، وهي تبني على أخطاء الحكومة السورية  لتكسب مزيداً من الحلفاء”. وتخشى أنقرة من تدخل إسرائيلي مباشر في حال اندلاع مواجهة بين دمشق و”قسد”، ما قد يفتح الباب أمام تصعيد إقليمي واسع.

‏تحذير أممي: خطر الانزلاق نحو الفوضى

في خضم هذا المشهد المزدحم، أطلق المبعوث الأممي السابق إلى سوريا غير بيدرسون تحذيرات لافتة، قائلاً: إن “الحالة الطائفية خلقت عصبية وتوتراً أضعفا النوايا الحسنة التي وُجّهت في البداية نحو الحكومة الانتقالية”، وأضاف: “العنف كشف أن الإدارة الانتقالية لا تستطيع السيطرة الكاملة على البلاد، ولا يبدو أن الحكومة الانتقالية مستعدة لإجراء إصلاحات أمنية حقيقية”، محذّراً من أنّ استمرار الانقسام قد يجعل سوريا “تتحول إلى ليبيا أخرى، وهو خطر  محدق بالفعل”.

خاتمة: مرحلة رمادية ومخاطر مفتوحة

‏‏تبدو سوريا اليوم أمام مفترق دقيق: تسوية مؤجّلة لا تُنفّذ، ومعارك محتملة لا تندلع. فالاتفاقات تُوقَّع لكن لا تُترجم، والتحالفات تُبنى على الخوف لا على الثقة. بين ضغوط تركيا، وحذر واشنطن، وترقّب تل أبيب، وتحذيرات الأمم المتحدة، تجد دمشق نفسها في معادلة مستحيلة: الحفاظ على وحدة الدولة من دون الدخول في حرب داخلية، وإرضاء الحلفاء من دون خسارة السيادة.

‏‏إنه زمن المساومات الصعبة، حيث تبدو سوريا محاصَرة بين مطرقة التحالفات وسندان الانقسام — دولة تبحث عن تماسكها في بحر من التناقضات، واتفاق 10 آذار ليس سوى مرآة هشّة لما تبقّى من حلم الرغبة في الوحدة السورية.

كاتب