الريال اليمني ودلالات سكّ العملة واستهداف الودائع

وحدة تحليل السياسات
يمتد الصراع المستفحل في اليمن منذ العام 2015م، إلى ما هو أبعد من الجبهات العسكرية، فلم يكن الجانب الاقتصادي محيّداً منذ البداية حتى يجد له منأىً من التبعات في ما تلا من الأعوام، بل أُستخدم كأداة في الحرب منذ نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في سبتمبر من العام 2016م، بقرار من حكومة المنفى، حينها انقسمت الأدوات المالية، وباتت العملة سلاحاً استراتيجياً في حرب اقتصادية لم تكن مجرد نتيجة ثانوية للصراع، بل محركاً رئيسا للمعاناة الإنسانية التي تجلّت في انخفاض حاد لقيمة العملة، وتضخم جامح، وارتفاع كبير في كلفة السلع الأساسية، ما دفع ملايين اليمنيين إلى الفقر المدقع الذي هدّم كل مقومات الأمن الغذائي.
وبينما يتلمّس اليمنيون فرص الحياة في وطنٍ مزقته سنوات الحرب والعدوان، جاء إعلان البنك المركزي في صنعاء، عن إصدار عملة ورقية جديدة (فئة 200 ريال) ومعدنية (فئة 50 ريالاً) ليفتح جدلا بشأن ضرورة أو حتمية استبدال العملات التالفة وضمان تدفق السيولة، حسب ما يراه بنك صنعاء، واعتبار خطوة كهذه تهديد يعمق الانقسام النقدي الشامل، بحسب ما يراه القائمون على البنك المركزي في عدن، الذين واجهوا خطوة حكومة المجلس السياسي الأعلى بإدانة شديدة، بالموازاة مع مواقف مشابهة ومعلنة صادرة عن الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
إصدار صنعاء: ضرورة أم مناورة سيادية؟!
في الثاني عشر من يوليو 2025م، أعلن البنك المركزي في صنعاء عن سك عملة معدنية جديدة من فئة 50 ريالاً، تبعها بعد يومين من ذات التاريخ، الإعلان عن إصدار ورقة نقدية من فئة 200 ريال. وأكد البنك أن هذا الإصدار يأتي في إطار “خطة استعادة شاملة للنظام النقدي الوطني”، ويهدف إلى “استبدال الأوراق النقدية المهترئة والتالفة بشدة من فئات 50 و100 و200 و250 ريالاً، والتي تدهورت نتيجة كثرة الاستخدام”، ناهيك عن عزلتها وندرتها. مشدداً على أن “العملة الجديدة طُبعت وفقًا للمعايير الدولية”، والأهم من ذلك أنها “لن تؤثر على أسعار الصرف أو تزيد من التضخم، لأنها مجرد استبدال للأوراق النقدية التالفة وليست إضافة إلى المعروض النقدي الحالي”.
من منظور اقتصادي ومالي صرف، فإن عملية استبدال العملة التالفة بأخرى جديدة، في حال تمت بدقة وشفافية، لا تعني زيادة في الكتلة النقدية المتداولة، وبالتالي لا ينبغي أن تؤدي إلى تضخم أو انخفاض في قيمة العملة. فالأوراق النقدية المهترئة، رغم أنها لا تزال جزءاً من المعروض النقدي، إلا أنها تفقد فعاليتها في التداول، وتعيق المعاملات اليومية، وتزيد من تكاليف التعامل النقدي على الأفراد والشركات.
لذا، فإن استبدال العملة المهترئة بطبعة جديدة وصقيلة من شأنه تحسين كفاءة التداول النقدي، وتسهيل المعاملات التجارية، وتقليل الارتباك الناجم عن ندرة أو تدهور الفئات الصغيرة. كما أن توفر عملة سليمة يعزز ثقة الجمهور في العملة الوطنية كأداة للتبادل وحفظ القيمة، ويقلل الحاجة إلى التعامل بالعملات الأجنبية أو وسائل الدفع البديلة بسبب سوء حالة العملة المحلية.
وعطفاً على ما سبق، فإن هذا الإجراء يُقدَم على أنه “استبدال محسوب” وجزء من “خطة استعادة شاملة للنظام النقدي الوطني”، يسعى إلى “المساهمة في استقرار السوق والحفاظ على التوازن النقدي”.
ومع ذلك، فإن الإجراء يمهد لما هو أبعد، وحسب بيان البنك المركزي بصنعاء، فقد أشار إلى أنه “سيدرس الحاجة إلى سك وإصدار فئات أقل من 50 ريالاً خلال الأشهر الستة المقبلة”، ما ينم عن نهج يعتمد التخطيط بدلاً من الارتجال.
ووفقاً للبيان فإن هذا الإصدار “يهدف إلى تعزيز كفاءة التداول النقدي دون إحداث اضطرابات في هياكل السيولة أو التسبب في ضغوط تضخمية”، وقد لاقى ترحيباً في أوساط المواطنين لتسهيله المعاملات وتقليله الارتباك الناجم عن ندرة أو تدهور الفئات الصغيرة. ويؤكد البنك المركزي في صنعاء أنه “لم يستخدم هذا الإصدار لتمويل النفقات أو دفع الرواتب، ملتزماً بمسار اقتصادي شفاف يحافظ على القيمة الفعلية للريال ويحمي السوق من التضخم أو الفوضى النقدية”.
لكن بعيداً عن المبررات الفنية، تُؤطر الحكومة في صنعاء هذا الإجراء على أنه “استجابة مدروسة جيداً لحاجة مجتمعية ملحة”، و”تحول استراتيجي في أداء الجبهة الاقتصادية”، وانعكاس لقدرة البنك المركزي على إدارة المعركة النقدية بـ “أدوات سيادية وفعالة”. كما تصوَّره على أنه “إعلان رمزي عن استمرار بناء اقتصاد المقاومة، القائم على اتخاذ القرار الوطني المستقل”، مع إعطاء الأولوية لمصالح الشعب وسط “الحرب الاقتصادية”، أضف إلى ذلك ربطها التأخر في الإصدار بـ “إعطاء فرصة للعمليات السياسية والتزامات السلام”.
وهذا يعني أن السياسة النقدية في صنعاء ليست معزولة، بل تعمل ضمن رؤية وطنية واسعة. وفي حين تُقدم صنعاء إصدار العملة الجديدة على أنه ضرورة فنية بحتة لاستبدال الأوراق النقدية المهترئة؛ فإن توقيت هذه الخطوة والرواية الرسمية المصاحبة لها تشير إلى تحرك استراتيجي أعمق ومدروس، يهدف إلى إعادة تأكيد السيادة النقدية وتوطيد السيطرة في مواجهة الضغوط الدولية المتصاعدة.
إدانات دولية ومحلية: تصدع نقدي دون رتوش
لم يمر إصدار صنعاء دون ردود فعل غاضبة، فقد سارعت حكومة المنفى إلى إدانة العملة الجديدة، واصفةً إياها بـ “المزيفة” و”المدمرة” واستمرارا للحرب الاقتصادية”، وحذرت جميع المؤسسات المالية والشركات والمواطنين من استخدام العملة الجديدة، مشيرةً إلى خطر العقوبات الدولية المحتملة للتعامل مع عملة صادرة عن “منظمة إرهابية مصنفة”، في إشارة إلى تصنيف الولايات المتحدة الأمريكية لـ ” أنصار الله “.
بل ذهب فرع البنك المركزي في عدن بعيداً ليهدد بقطع الأنظمة المالية والمصرفية في المناطق التابعة لصنعاء عن الشبكة المالية العالمية، وقد عزّز هذا الموقف دعم سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، الذين وصفوا سك البنك المركزي في صنعاء عملة بديلة عن التالفة بـ “التزوير غير القانوني”.
في سياق متصل، أعرب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، هانس غروندبرغ، عن قلقه العميق، معتبراً أن “مثل هذه الإجراءات الأحادية ليست الحل لأزمة السيولة، وتخاطر بزيادة تقويض الاقتصاد اليمني الهشّ بالفعل، وتعميق تجزئة أطره النقدية والمؤسسية”، وأشار إلى أن هذا الإصدار “ينتهك تفاهم 23 يوليو 2024م” الذي تم التوصل إليه برعاية الأمم المتحدة لتهدئة التصعيد الاقتصادي.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد كثّفت ضغوطها المالية. وفي 3 مارس 2025م، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على من أسمتهم “أفراد وكيانات متورطة في تهريب النفط وغسل الأموال” التي تدر “مئات الملايين من الدولارات سنوياً” للحوثيين – والحديث لوزارة الخزانة الأمريكية-. وهذا ما أدى إلى تصعيد الضغط على البنوك لنقل مقارها من صنعاء إلى عدن، وأحدها البنك اليمني للإنشاء والتعمير، الذي نقل عملياته رسمياً إلى عدن، لتجنب العقوبات الأمريكية المشددة.
نقل مؤسسة ضمان الودائع: تعزيز لسيطرة عدن وتعميق للانقسام
وفي رد فعل مباشر على خطوة البنك المركزي في صنعاء اتخذ فرع البنك المركزي اليمني في عدن قراراً يهدف إلى تعزيز سيطرته على القطاع المالي، إذ يقضي القرار رقم 6 لعام 2025م، بنقل المقر الرئيسي لمؤسسة ضمان الودائع المصرفية من صنعاء إلى عدن.
هذا القرار، الذي صدر في 20 يوليو 2025م، يهدف بشكل أساسي -بحسب نصه- إلى “حماية أموال المودعين وضمان سلامة العمليات المصرفية، مما يعزز الثقة في المؤسسات المالية التي تعمل تحت مظلة الحكومة في عدن. كما يسعى إلى تعزيز الحوكمة المالية، وتوحيد آليات الرقابة والإشراف المالي، وتسهيل التواصل مع الجهات ذات الصلة في الحكومة بصفتها حكومة معترف بها دولياً، وبالتالي فإن القرار يسعى إلى تعزيز ثقة المستثمرين والعملاء في النظام المصرفي اليمني”. حسب رواية بنك عدن.
إن تأكيد البنك المركزي في صنعاء بأن العملة الجديدة لن تسبب تضخماً، كونها لا تتجاوز مسألة الاستبدال الدقيق، كان بمثابة بيان سياسي يهدف إلى طمأنة الجمهور في مناطق سيطرتها، وكان متوقعا أن يعارض فرع البنك في عدن وحكومة المنفى الإجراءات التي أعلنت عنها حكومة المجلس السياسي الأعلى، وما تنطوي عليه من خطوة ذات دلالات اقتصادية وسياسية هامة.
فالقرار الذي يستهدف أموال المودعين عزز من نوايا حكومة المنفى في بسط سيطرتها على المؤسسات المالية الحيوية، نظرا إلى أن مؤسسة ضمان الودائع تلعب دوراً محورياً في تأمين المودعين وضمان استمرار الثقة في البنوك عند حدوث أي أزمة مالية. ومع ذلك، تظل التحديات اللوجستية والفنية لتنفيذ القرار قائمة، خصوصاً مع استمرار وجود فروع للبنوك في صنعاء، وغياب دعم المجتمع الدولي -وإن ظهر صورياً- خوفاً من تفاقم الأزمة المصرفية، ومن احتمالية توسع ردود أفعال صنعاء على الخطوات التصعيدية التي تقدم عليها حكومة المنفى بدعم من الرياض.
الاقتصاد والحل السياسي
كان الوفد الوطني قد اشترط ترتيبات إنسانية واقتصادية مع إعلان الهدنة وخفض التصعيد، إلا أن دول التحالف استغلت الموقف اليمني الإنساني المساند لغزة مع بدء معركة طوفان الأقصى، وعملت بالتنسيق مع الولايات المتحدة على فرض عزلة اقتصادية بهدف الضغط على حكومة المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، وثنيها عن إسناد غزة سياسيا وشعبيا وعسكريا.
غير أن صنعاء بعثت رسالة قوية وعميقة، حين قامت بسك عملة بديلة مع مراعاة كل الأبعاد السياسية والاقتصادية لخطوة مهمة كهذه، الأمر الذي أعاد ملف اليمن إلى الواجهة مجددا، وأجبر الأمم المتحدة على التدخل لدى مختلف الأطراف للحفاظ على الوضع القائم.
أبعد من ذلك، فقد حفزت صنعاء الأمم المتحدة على بحث حلول اقتصادية مشتركة، تستوجب توحيد الرؤية ووحدة الموقف والقرار. وبرغم أن خطوة كهذه ما تزال مجرد أفكار على ورق، فإن البدء منها، والبناء عليها مستقبلا، يعزز من فرصة الحل السياسي الشامل الذي طال انتظاره، والذي بدونه لن يكتب لاقتصاد اليمن التعافي من جديد.